لبنى الخميس
تؤكد بعض الإحصائيات أننا نقضي نصف أوقات الصحو على التقنية الحديثة، متنقلين بين التلفزيون ومواقع التواصل الاجتماعي وألعاب الفيديو، أي ما يقارب 7 ساعات يومياً، وفي مجموعها 23 عاماً من حياتنا. لكن فكرت يوماً أين نشأ الآي فون؟.. ومن أي بقعة في العالم خرج غوغل، وتطور فيس بوك وتويتر وسناب شات وياهو، وغيرها من مواقع التواصل الاجتماعي التي تحظى بجزء كبير من يومياتنا؟
معظم تلك التقنيات الحديثة، بما فيها أشهر مواقع التواصل الاجتماعي وأكثرها شعبية، وُلدت من رحم مكان واحد، هو «وادي السيليكون» الواقع في شمال ولاية كاليفورنيا الأمريكية. في هذه البقعة تتخذ معظم شركات التقنية الحديثة في العالم مقرّات لها، تتكون من مكاتب إدارية، ومختبرات تقنية، ومراكز أبحاث، تنجب كل عام مئات الاختراعات التي تغير شكل العالم. لكن لماذا سمي هذا الوادي الكاليفورني بوادي «السيليكون»؟
السيلكون المركب الكيميائي الشهير في عالم التجميل له استخدامات كثيرة، أهمها أنه يُستخدم في صناعة معالجات الكمبيوتر والشرائح الإلكترونية التي فجَّرت عصر التقنية، وأوصلته لقمة الصناعات العالمية. لكن بدايات نشأة وادي السيليكون لم تكن مفروشة بالورود، بل مدفوعة بمعضلتين كانت تعاني منهما جامعة «ستانفورد» العريقة إبان الحرب العالمية الثانية؛ وكان يجب عليها أن تجد لها حلولاً.
المشكلة الأولى كانت الأزمة المالية؛ إذ عانت الجامعة من ضائقة مادية؛ دفعتها لاتخاذ قرار ذكي وذي رؤية بعيدة المدى، بشراء مساحات من الأراضي في شمال كاليفورنيا، وعلى مقربة من الحرم الجامعي، طامحة إلى تأجيرها إيجاراً طويل المدى، قد يصل إلى 51 عاماً، للشركات المهتمة بتطوير التقنية. أما المعضلة الأخرى فكانت هجرة العقول؛ إذ كانت جامعة ستنافورد تتعب على صقل عقول طلابها وتطوير مواهبهم، وتتفانى في دعم مشاريعهم المبتكرة، لكن خيرها كان يذهب لغيرها؛ إذ كان خريجوها يسافرون إلى أماكن متعددة في الولايات المتحدة والعالم بحثاً عن فرص وظيفية مغرية، ومستقبل مهني واعد.
صاحب هذه الفكرة كان «فريدريك تيرمان»، بروفيسور في جامعة ستانفورد والأب الروحي لوادي السيليكون. ولا ينسى قاطنو الوادي اليوم قصته مع اثنين من أذكى طلابه، حين أقنعهما بعدم مغادرة كاليفورنيا وفتح شركتهما الخاصة على مقربة من الجامعة بعدما دعمهما بالمال والمشورة الصادقة، وفعلاً افتتحا شركتهما في تلك البقعة الواعدة والطموحة، وأصبحت من أولى الشركات التي آمنت بالفكرة، وكانت من روادها.
وقد يسأل سائل: ما سرّ نجاح وتميز وادي السيليكون وتصدّره المناطق المتخصصة عالمياً بالعائدات والنتائج المذهلة؟
الجواب هو أن الموضوع يعود إلى عوامل عدة: أهمها وجود مراكز بحثية متطورة، ومصانع جاهزة للتصنيع، وتوافر رأس مال ضخم ومغامر، يدعم المواهب، ويؤمن بالأفكار.. والأهم من هذا كله مصنع حي للعقول، هو جامعتا ستنافورد وبيركلي.
كما أن وادي السيليكون يحظى بشعبية واسعة وسط عباقرة التقنية الجدد والمهتمين بهذا الحقل من حول العالم، نتيجة أسباب عدة، أهمها أن «السيليكون فالي» يعمل على مدار السنة، 365 يوماً، 7 أيام بالأسبوع، 24 ساعة باليوم، إضافة إلى أن الموهوبين هناك لا يخشون من حكم الآخرين عليهم، ولا يخافون أن يحلموا أحلاماً كبيرة؛ فكثير منهم يؤمن بأن الأفكار المجنونة هي ما سيقودهم إلى النجاح والشهرة.. دون أن ننسى حس المنافسة العالي، والبيئة الخلاقة والمحفّزة؛ ما يجعلهم في حالة ابتكار مستمر.
العامل الأخير في مثل هذا المكان الملوّن والزاخر بكل أطياف المجتمع الإنساني: لا يهم ما لونك.. ما جنسيتك.. ما دينك.. ما يعنيهم حقاً هو إبداعك، وقدرتك على الخروج بأفكار وحلول تقنية خلاقة لواقع إنساني أفضل.
تجربة «السيليكون فالي» تستحق أن نتأملها عن قرب، ونحللها عن كثب؛ فمخرجاتها التي تتمثل في القوة الاقتصادية والسياسية لأمريكا، ووفرة الوظائف، والبيئة الجاذبة لنخبة العقول والجيوب المستثمرة، والاختراعات والبرامج الجديدة التي تخدم البشرية، والأهم الثروة الإنسانية والبشرية في العقول والأفكار، تدعونا في عالمنا العربي المثقل بأحادية مصادر الدخل، ومركزية مجالات الاستثمار، إلى أن ندرس نشأة الوادي، ونقصّها على أطفالنا، ونتداولها في نقاشاتنا، وننقلها لمسؤولينا طمعاً في فهم الدروس واستنباط العبر.
أخيراً.. الدول مثل البشر، تمر بمشاكل وأزمات تحبطها، ونجاحات تدفعها للأمام.. لكن الأهم أن نحول المشكلة إلى حل مبتكر ومستدام مثلما فعلت الولايات المتحدة في قصة تأسيسها لوادي العباقرة.. الذي لم يقدم لأمريكا مكاسب مادية عظيمة نتيجة تلك البيئة الجاذبة أو الاختراعات المتواصلة فحسب، بل ثروة بشرية عظيمة، قوامها احترام العقل وتمجيد الابتكار.