عبدالرحمن بن عبدالله النور
«الطاء هي الحرف السادس عشر من حروف المباني وهي بالعبرانية طِثْ وبالسريانية طِطْ ويحتمل أن يكون معناها (حية) مأخوذة من معنى الطي بالعربية أو من لفظة توت بمعنى يد في لغة مصر القديمة وذلك يوافق صورة هذا الحرف في الفينيقية...».
هذا ما ورد عن حرف طاء (ط) في معجم محيط المحيط، وهو حرف من حروف اللسان العربي المبين، ولكنه لم يجد الشهرة البالغة التي حظي بها حرف الضاد حين رأينا اللغة العربية تسمى بلغة الضاد أو حرف العين حين سمى الخليل بن أحمد معجمه (كتاب العين)، ولو أدرك علماء اللسانيات العلامة اللسانية الكونية التي يقدمها حرف الطاء لوضعوا نظرية لسانية خاصة لهذا الحرف، وأسموها نظرية الطاء، فكيف يقدم حرف الطاء لنا هذه النظرية ضمن الحروف المقطعة أو الرامزة أو فواتح السور؟
قلت في المقالات السابقة أن كل حرف من الحروف المقطعة الأربعة عشر التي وردت في فواتح بعض سور القرآن الكريم يقدم للدراسات اللسانية التفصيل المطلوب لاستنباط دلالته من رسم (صورة) ذلك الحرف كما يمكن أن يستنبط منه قاعدة لسانية تشرح كيف يتم (بناء)رسم أو صورة ذلك الحرف وبذلك يمكن دراسة نظام رسم الحروف فيما يخدم النظرية اللسانية البنائية الجديدة على مستوى دراسة الدلالة القياسية للحروف في حالتها الحرة الأولى قبل دخولها في بناء (معاني) الكلمات وهو مستوى آخر من الدراسة اللسانية.
وإذا كانت الحروف المقطعة في فواتح بعض سور القرآن الكريم لها دلالات لسانية قياسية ولها أيضا دلالات كونية عامة، فما هو الحرف الذي له دلالة على ظاهرة (التطور)كظاهرة لسانية و ظاهرة كونية عظيمة مشاهدة في كثير من الحالات والعلوم؟
إنه حرف الطاء (ط).
وفي بحثي عن دلالات الحروف المقطعة وارتباطها بسياق مواضيع السور التي تفتتح بها، لم يدهشني مثل حرف الطاء، كيف؟!
ورد حرف(ط) كحرف فاتح للسورة في أربعة سور من سور القرآن الكريم هي :
1- سورة طه، في قول الله تعالى:
«طه (1) ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى (2)».
2- سورة الشعراء في قول الله تعالى:
«طسم (1) تلك آيات الكتاب المبين (2)».
3-سورة النمل، في قول الله تعالى:
«طس تلك آيات القرآن وكتاب مبين(1)».
4- سورة القصص، في قول الله تعالى:
«طسم (1) تلك آيات الكتاب المبين (2)».
وفي جميع هذه السور ورد ذكر حادثة عصا موسى التي انقلبت(أو تطورت) إلى حية / ثعبان/ جان.
ففي سورة (طه)جاءت الحادثة في الآية رقم (20)كالتالي:» فألقاها فإذا هي حية تسعى»
وفي سورة (الشعراء)جاءت الحادثة في الآية رقم 32 كالتالي:»فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين».
وفي سورة ( النمل )جاءت الحادثة في الآية رقم (10)كالتالي: «وألق عصاك فلما رآها تهتز كأنها جان ولى مدبرا ولم يعقب يا موسى لا تخف أني لا يخاف لدي المرسلون».
وفي سورة القصص جاءت الحادثة في الآية رقم (31): «وأن ألق عصاك فلما رآها تهتز كأنها جان ولى مدبرا ولم يعقب يا موسى أقبل ولا تخف إنك من الآمنين»
بينما نجد أن السور الأخرى التي وردت فيها قصة موسى عليه السلام مع فرعون ولم تفتتح بحرف الطاء مثل سورة النازعات لم يرد فيها قصة العصا وتحولها إلى ثعبان، فيما عدا سورة واحدة لها علاقة بنائية شكلية مع حرف الطاء، وسيأتي ذكرها في حينه.
فكيف تحولت العصا تلك الجماد إلى كائن حي يضج بالحياة والحركة؟
إنها ظاهرة (التطور) الكونية التي هي آية الآيات التي تشهد لله عز وجل بقدرته التي تظهر في كل تطور (خلقي) لمخلوقات الله في هذا الكون العجيب.
انتقلت العصا من طور الجماد إلى طور الحياة وهذا الانتقال لم يحدث عن طريق الانتخاب الطبيعي البطيء المتسلسل بل انتقال مفاجئ لا يمكن تفسيره إلا أن هذا حدث بأمر مباشر من الله عز وجل، وهنا تظهر ظاهرة التطور بكل تجلياتها الإلهية، بل تجاوزت هذه المسألة إلى عودة الحية إلى طورها السابق وهو (العصا) في تأكيد للقدرة الإلهية على عكس عملية التطور وأن التطور لا يسير في خط واتجاه تصاعدي واحد بل أن قدرة الله تعيد الأمر إلى مبدأه متى ما شاء الله العزيز الحكيم.
ماذا عن دلالة التطور اللسانية لحرف الطاء التي يمكن أن تستنبط من القرآن الكريم؟
قلت أن حادثة العصا التي تنقلب إلى كائن حي وردت في أربع سور افتتحت بحرف الطاء، ولكن الأمر لا يقف عند هذا الحد، بل سنفاجأ بأن ذكر هذه الحادثة ورد لمرة خامسة أخيرة في سورة الأعراف في الآية رقم (107)وفيها يقول الله تعالى:» فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين»، ما العجيب في سورة الأعراف وما علاقة ذلك بحرف الطاء ودلالة التطور؟
افتتحت سورة الأعراف بقول الله تعالى:» المص(1) كتاب أنزل إليك فلا يكن في صدرك حرج منه لتنذر به وذكرى للمؤمنين(2)»، أي أن هناك أربعة حروف فواتح تفتح القراءة وتفتح الدلالة اللسانية القياسية كما قلت، ومن هذه الحروف نجد حرف (ا) وحرف (ص)، ولا يخفى على القارئ أن حرف (ا) و حرف (ص) هما الحرفان اللذان يتكون أو يتركب منهما حرف (ط) من الناحية الشكلية البنائية، وهنا مربط الفرس.
دلالة حرف اللام وحرف الميم تقوم بوظيفة وصل حرف الألف (ا) بحرف (ص) وجمعهما في كيان شكلي دلالي واحد جديد هو كيان حرف (ط)، هكذا تنمو وتتطور دلالة حروف اللسان العربي ضمن الشبكة الدلالية القياسية للحروف.
وفي تأكيد على الدلالة الشكلية ووظيفتها في بناء الدلالة اللسانية للحروف نجد أن سورة الرعد تفتتح هكذا:» المر تلك آيات الكتاب..»، وهي أربعة حروف ولكن لم يرد حرف (ص) الذي هو البنية الشكلية التحتية لحرف (ط)، ولذا لم ترد حادثة عصا موسى في هذه السورة، وفي هذا تأكيد أن بنية الدلالات اللسانية الواردة في فواتح السور ليست عشوائية أو من وضع بشر بل لها بنية دلالية عميقة جدا تحتاج إلى تدبر واستنباط، وقبل كل ذلك فتح من الله العليم الحكيم.
ما الذي تقدمه، أيضا، الحروف الفواتح (المص) في سورة الأعراف وعلاقتها بحرف (ط)؟
تحدثت في بداية هذه المقالات عن ما أسميته ظاهرة المجمل والمفصل وهي ظاهرة بيانية مهمة في دراسة النصوص حيث يرد المجمل ثم يأتي تفصيله في مكان آخر من النص؛ وهي ظاهرة قرآنية بالدرجة الأولى على مستوى التشريعات وعلى مستوى الكلمات، وعلى مستوى الحروف أيضا كعلامة أو آية لسانية كما يظهر مع حرف الطاء الذي ورد مجملا في أربعة سور ثم ورد مفصلا في سورة الأعراف في تأكيد على أن ظاهرة المجمل والمفصل هي ظاهرة موجودة على مستوى الحروف أيضا ممثلة في حرف الطاء.
ومن العجيب أن يرتبط ذكر هذا الحرف بالحية في اللغة العبرانية والسريانية وهما من اللغات القديمة ثم يأتي القرآن الكريم الذي أنزل بلسان عربي مبين ليشير إلى العلاقة اللسانية الدلالية بين حرف الطاء والحية، ولكن بإضافة دلالية عظيمة وهي دلالة التطور والانتقال من طور إلى طور، فهل كانت الحية علامة ورمزا لظاهرة التطور لأنها تقوم بتجديد جلدها والانتقال إلى طور آخر في حياتها، أم لأنها تظهر بأشكال طورية مختلفة، مرة ممتدا مثل العصا(ا)، ومرة تجدها ملتوية حول نفسها وتشبه حرف (ه) ومرة تشبه حرف (ل)وهكذا تنتقل الحية في حركتها وسكونها بين هذه الأطوار الشكلية المختلفة؟
والله تعالى أعلم.