تحدثت في المقالة الأولى عن المكونات أو المعطيات التي تحتاجها النظرية البنائية الجديدة وذكرت العلاقة المرجعية البنائية القياسية، وهي العلاقة التي تنتظم وتشمل جميع عناصر البنية المدروسة، وهي العلاقة التي تربط الجزء بالجزء وتربط الجزء بالكل، وتربط ما هو داخل النص بما هو خارج النص، وأقصد بها العلاقة القرآنية المستنبطة من نص القرآن الكريم.
و شرحت كيف نستنبط من شكل وصورة حرف ( ا ) الدلالة القياسية التي تدور حول معنى التوحيد والوحدانية والواحدية، وكيف يمكن توظيف هذه الدلالة في فهم معاني كلمات داخل النص القياسي كما رأينا مع كلمات ألف والمؤلفة الواردة في نص القرآن الكريم وأيضا كلمة «إيلاف» وهي القافلة التي « تتوحد» فيها تجارة تجار قريش في رحلة الشتاء والصيف، وكل ذلك بالاعتماد على العلاقة القياسية القرآنية بين الحرف والكلمات داخل نص القرآن القياسي.
والسؤال الآن، كيف تمتد الدلالة القياسية لتربط ما هو داخل النص القياسي بما هو خارج النص في تأكيد على (شمولية) هذه الدلالة القياسية وهذه من أهم الخطوات التي نحتاجها في دراسة العلامة اللسانية المستنبطة من نص القرآن الكريم؟
وردت مفردات في اللغة العربية مثل كلمة (تأليف) و كلمة (ألفة)، و (أليف ) و(ائتلاف) وهي مفردات لم ترد في نص القرآن الكريم إلا أن الدلالة القياسية لحرف ألف تشمل هذه الكلمات وهذا يؤكد على شمولية هذه الدلالة فيما هو خارج نص القرآن الكريم ولكنه ضمن نظام اللسان العربي.
ومن الملاحظات المهمة في استنباط معاني هذه الكلمات من شكل و رسم الحرف ( ا ) أن العلاقة البنائية بين (دال) الحرف و( مدلوله) ليست علاقة اعتباطية عشوائية بل دلالة قياسية مضبوطة باستقراء شكل الحرف وتوظيف واستثمار (اسم) الحرف في صناعة المعاني المشتقة من الحرف، وهذا يشرح كيف يكمن أن تمتد هذه الدلالة القياسية الشكلية للحرف إلى مفردات أخرى لم ترد في نص القرآن ولكنها ضمن سياق النظام اللساني العربي.
كما أننا نجد في نظام الأعداد الحسابية أن العدد واحد يأخذ شكل ورسم الحرف ألف فيكتب هكذا (1) دون أن يكون مركبا من أجزاء أخرى في دليل على واحدية هذا العدد، و أن هذه الدلالة القياسية المستنبطة من الخصائص البنائية لشكل الحرف ( ا ) تمتد لتشمل حقولا معرفية أخرى وتساهم في بناء نظامها.
و من هذه الدلالة البنائية القياسية أيضا نستطيع أن نستنبط لماذا سمي العدد (1000) بكلمة ( أَلْف) بتسكين اللام، فكما هو معروف فإن العدد ألف هو جمع عشر مئات، بمعنى أن هذه العشر مئات اجتمعت و تآلفت وتوحدت فيما بينها لتكون هذا العدد الذي هو (ألف).
إن معرفتنا بهذه الدلالة البنائية الشكلية للحرف ( ا ) قد تساعدنا في فهم واستقراء كثير من الرموز المعمارية القديمة التي ارتبطت بدلالات دينية عميقة غابت عن إدراكنا ومن هذه الرموز المعمارية مثلا ما يعرف بالمسلة الفرعونية، وهي عبارة عن عمود مصنوع من الحجر، مربعة الشكل و تنتهي بقمة هرمية مدببة، تصل في ارتفاعها أحيانا إلى ما يقرب من 30 مترا و بكتلة تصل إلى 300 طنا، وقد نشأت في الحضارة الفرعونية القديمة وكانت توضع أمام مداخل المعابد في عصور الأسر الفرعونية المختلفة، والذي يتأمل شكل هذه المسلات يجد أنها تشبه شكل الحرف ( ا ) في كل تجلياته بأبعاده المعمارية الثلاثة، فهل تكون الدلالة الشكلية البنائية للحرف ( ا ) والتي تعني التوحيد والوحدانية التي تشبه شكل تلك المسلات عند مداخل المعابد القديمة هي رمزية صريحة لتوحيد و وحدانية الإله المعبود، خصوصا وأن الديانة المصرية القديمة قامت على ديانة تؤمن بالله الواحد الأحد الذي هو رب الأرباب كما هو معروف، و بذلك تكون تلك المسلات (علامة) شكلية رمزية للإله الواحد الأحد؟
إن هذا قد يفسر سبب اتخاذ تلك المسلات، و يفسر وجود نقوش وكتابات دينية عليها؛ ومن العجيب أن المسلة لا تتكون أو تركب من حجارة متنوعة متعددة ؛ بل يجب أن تقد من حجر واحد صم أي ليس به مسام أو نتوءات أو زوائد في تأكيد لتلك الوحدانية الصمدية.
إن هذه الدلالة البنائية الشكلية للحرف ( ا ) جعلت بعض الدارسين للحروف الأبجدية يعتقد أن الحرف ( ا ) هو أصل الحروف الأبجدية؛ مما جعل الأبجدية تبدأ بهذا الحرف، والأمر ليس كذلك بشكل مطلق ؛ بل يحتاج إلى شرح وتوضيح.
كل شئ في هذا الكون في حقيقته يخضع لنظام واحد؛ فالخلية في الكائنات تخضع لنظام حيوي واحد وإذا أخذنا بمضمون دلالة حرف الألف ؛ فإن الخلية هنا هي أيضا (ألف)، الشمس تخضع لنظام حركي واحد فهي أيضا ألف، الإنسان يخضع لنظام حيوي واحد فهو أيضا ألف، وبذلك تتحول دلالة الحرف القياسية من دلالة لسانية خاصة إلى دلالة كونية عامة يمكن توظيفها في تسمية الأشياء، وهذا مهم في تطوير معرفة الخصائص الكونية للسان العربي وفي معرفة العلاقة الكونية التي تربط اللسان العربي المبين بالكون الواسع الذي يعيش فيه الإنسان، وهذا قد يفتح تطبيقات لسانية جديدة في مجالات جديدة، ويساعد في تفسير كثير من الظواهر الكونية بسبب تشابهها مع الظاهرة اللسانية العربية، وبذلك تكون حروف اللسان العربي، بسبب هذه الخصائص الكونية، هي آيات كونية محكمة ومفصلة في نص القرآن الكريم كما أن دلالاتها القياسية هي أيضا محكمة ومفصلة في نص هذا الكون الواسع الكبير، وقد صدق الله العزيز الحكيم حين قال في سورة الرعد :» الر كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير» فالكتاب كتابه والكون كونه.
وبعد، إن دراسة الدلالة البنائية الشكلية للحرف تفتح الآفاق أمام الباحثين في صناعة المعاني اللغوية وتطبيقاتها متى ما أدركنا واستنبطنا الدلالة القياسية ( الحرة ) لشكل الحرف، وهذه دلالة لا تستقيم، كما قلت سابقا، إلا لحرف اللسان العربي المبين ذي الخواص البنائية الشكلية القياسية الفريدة.
والله تعالى أعلم.
- جدة
abdulalnour@hotmail.com