« إن هذا البحث ينظر في تأريخ الحرف العربي ويخرج بنتيجة فحواها أن شكل كل حرف ليس مجرد دلالة صائتة كما يحسب علماء اللسان المتأخرون، بل يزيد على ذلك بأنه دلالة شكلية بنائية كاملة كأنها جسم مخلوق ينبض بحرارة الدم ورائحة العرق وفورة الحياة الصاخبة في دورة الجسد كله ... «
للكاتب الأديب / عبدالله نور
من كتابه « نون القرآن الكريم «
أستطيع القول أن النص الذي ذكرته أعلاه يمكن أن يمثل القانون الأول في النظرية البنائية اللسانية الجديدة، كيف؟
من فضل الله تبارك وتعالى على والدي الأديب/ عبدالله نور وعليً أن وضع والدي بين يدي بحثا صغيرا في مبناه وكبيرا في معناه وقد تم طبعه في كتاب صغير بعنوان (نون القرآن الكريم / دلالات حروف اللغة العربية )؛ تحدث فيه عبدالله نور عن دلالات بعض الحروف الرامزة في أوائل السور أو ما يعرف بالحروف المقطعة مثل حرف (نون) وحرف (صاد) وحرف (قاف) وحرف (حاء) وحرف (ميم) وحرف (طاء)، و قد توفاه الله قبل أن يكمل الحديث عن بقية الحروف ويستفيض في شرح ما أورده من دلالات الحروف؛ وقد كنت أظن عند قراءتي الأولى لذلك البحث أن الوالد العزيز قد تجاوز حدود الخيال اللغوي كثيرا في حديثه عن دلالات بعض الحروف، وهو يريد أن يذهب بالقارئ معه إلى حدود لسانية جديدة غير مطروقة، قد ترسم واقعا جديدا لبناء معاجم اللغة العربية، إلا أنني اكتشفت فيما بعد أن ذلك البحث يقدم أيضا مفاتيح تأملية هامة لدراسة شكل الحرف العربي في محاولة لفهم ذلك اللسان العربي المبين فهما جديدا بالاستعانة بالمرجعية القرآنية القياسية وهو ما أضع خطوطه العريضة أمام القارئ في ثنايا هذه المقالات.
قلت في المقالة السابقة: « أن الحرف في اللسان العربي له دلالة قياسية يمكن استثمارها في بناء معاني الكلمات الواردة في النص و ذلك عن طريق دراسة الخصائص البنائية ( الشكلية ) للحرف في حالته ( الحرة ) المستقلة عن أية سياق ثم الاستفادة من هذه الدلالة في استنباط معاني الكلمات التي تشتق من تلك الحروف، والأمر يحتاج إلى مثال تطبيقي لشرح ذلك للقارئ من نص القرآن الكريم، وسأبدأ بحرف (ألف) كأول حروف الأبجدية .
أول خاصية تظهر بوضوح للحرف (ألف) ورسمه هكذا (ا)، عند دراسته من ناحية بنائية شكلية هندسية، هو أنه مكون من بنية (واحدة) أي أنه ليس مكونا من أجزاء كما في شكل الحرف اللاتيني (A)، فكما يلاحظ القارئ فإن الحرف اللاتيني مركب من ثلاثة خطوط تتقاطع بطريقة معينة فيما يشبه شكلا مثلثا، أما الحرف العربي (ا) فهو مكون من خط واحد فقط، و باعتبار أن شكل الحرف (ا) هو علامة بنائية لسانية فإننا نستطيع القول أن هذه العلامة تدل على (التوحيد ) أو (الواحدية) أو الوحدانية أو (البنية الموضوعية الواحدة)، فأصبح شكل الحرف دالا على الشيء الواحد، ولذلك فإن الدلالة القياسية للحرف (ألف) تعني الوحدانية أو الواحدية أو التوحيد، وإذا استعرضنا الكلمات التي اشتقت من اسم الحرف ألف ووردت في النص القياسي أي نص القرآن الكريم؛ نجد في سورة آل عمران - الآية 103 قول الله تعالى: {واعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ? وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَى? شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا ? كَذَ?لِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}، فالفعل (أَلَّف) يعني جمع قلوبهم على قلب رجل (واحد) أي (وحد) بينهم بعد فرقة؛ فأخذ الفعل (أَلَّف) معناه من الدلالة البنائية الشكلية لحرف (ا) وأخذ مبناه من اسم الحرف ألف، وكذلك الحال فيما ورد في سورة الأنفال - الآية 63: {َوأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ ? لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَّا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}.
وكلمة المؤلفة قلوبهم الواردة في سورة التوبة - الآية 60: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}، لا تخرج عن معنى (توحيد) قلوبهم على الإسلام.
و كلمة الألفة تعني أيضا التوحد مع الآخرين في (حالة) واحدة، والحيوان الأليف هو الذي (تتوحد) معيشته مع معيشة الإنسان الذي يأتلفه، وتأليف الكتاب أي (توحيد) و جمع كلماته تحت موضوع (واحد)، و كما يلاحظ القارئ؛ فإن كلمات (ألف) و(مؤلفة) و (تأليف) و (ألفة) قد تأخذ في معاجم اللغة العربية معاني مختلفة قليلا عن بعضها البعض إلا أنه تنظمها دلالة قياسية واحدة مأخوذة من الحرف (ألف) وتمثل البنية التحتية الأساسية لمعاني تلك الكلمات.
ومن الملاحظ أيضا عند دراسة العلاقة القياسية القرآنية للحروف كعلامات لسانية وعلاقتها بالمعاني الواردة في نص القرآن الكريم نجد أن دلالة حرف (ألف) هي أيضا علامة تدل على بنية المعاني الشرعية و تتفق معها ،ولذلك نجد أن السور التي افتتحت بحرف (الف) يرد فيها ذكر توحيد الله (نصا) بشكل مباشر أو بشكل ضمني في تأكيد على علاقة الدلالة اللسانية البنائية الشكلية للحرف (ألف) بالمعاني الشرعية الواردة في نص القرآن الكريم الذي هو كتاب تشريع في المقام الأول، و لأنه نزل بلسان عربي مبين فإنه من الطبيعي أن تتفق الدلالة اللسانية القياسية مع المعاني الشرعية في نص القرآن الكريم.
ففي سورة البقرة التي افتتحت بـ(الم) يقول الحق تبارك وتعالى في الآية 163: {وَإِلَاهُكُمْ إِلَاهٌ وَاحِدٌ لَّا إِلَاهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ}.
وفي نفس السورة يقول الله تعالى في الآية 255: {اللَّهُ لَا إِلَاهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ}.
وكذلك في سورة آل عمران - الآية 2: « اللَّهُ لَا إِلَ?هَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ».
وفي سورة الأعراف - الآية 158: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَاهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}.
وفي سورة يونس الآية 90: {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لَا إِلَاهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ}.
وفي سورة هود الآية 14: {فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَن لَّا إِلَاهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ}.
وفي سورة يوسف الاية 39: {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ}.
وفي سورة الرعد - الآية 30: {كذَ?لِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهَا أُمَمٌ لِّتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إِلَاهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ}.
وفي سورة ابراهيم، الاية 48: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ}.
وفي سورة الحجر الاية 96: {الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَاهًا آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ}.
وفي سورة العنكبوت الاية 16 و الآية 17: {وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ? ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ(16) إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِندَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}
وفي سورة الروم، الاية 31: {مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ}.
وفي سورة لقمان، الاية 13: {وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}.
و في سورة السجدة، الاية 4: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ}.
إن استنباط هذه الدلالة القياسية من شكل الحرف تعيد فهمنا للوظيفة البنائية لهذه الحروف، فإذا استعرضنا الأقوال المختلفة المذكورة في تفسير هذه الحروف فإن هذه الدلالة البنائية ال شكلية تضيف معنى جديدا جوهريا مرتبطا بذات النص القرآني؛ حين يكون حرف (ألف) دالا على التوحيد الذي هو الموضوع الأول والمركزي في القرآن الكريم، وهو أيضا علامة على وحدانية الله أي أن الله هو الواحد الأحد، و هذا في اعتقادي إضافة جديدة غير مسبوقة في فهم هذه الحروف المقطعة وهو فهم يحتاجه أيضا الدرس اللغوي في مسألة صناعة المعاني و يحتاجه درس تفسير القرآن.
وكما يرى القارئ الكريم فإن هذا الاستقراء لشكل الحرف (ألف) ينطلق من الحرف المنصوص عليه في النص القياسي؛ لاستنباط الدلالة اللسانية القياسية، ثم توظيف هذه الدلالة في تشكيل معاني كلمات داخل النص القياسي كما رأينا مع كلمات ألف والمؤلفة؛ بالاعتماد على العلاقة القياسية القرآنية بين الحرف والكلمات داخل نص القرآن القياسي، و ضمن نظام اللسان العربي المبين؛ أي أن مجال هذا النشاط هو داخل النص القياسي وضمن علاقة الجزء بالجزء والجزء بالكل، وسف نرى في المقالة القادمة إن شاء الله كيف تمتد الدلالة القياسية لتربط ما هو داخل النص القياسي بما هو خارج النص في تأكيد على (شمولية) هذه الدلالة القياسية وهذه من أهم الصفات البنائية التي نحتاجها في دراسة العلامة اللسانية المستنبطة من نص القرآن الكريم.
والله تعالى أعلم.