د. فوزية البكر
عام 1800 م عثر بعض الصيادين على طفل الافيرون البري وحيدا من غير أم أو اب وسط غابة الأفيرون في الجبال الجنوبية من فرنسا، وكان عمره آنذاك ثماني سنوات وبعض الروايات تشير إلى انه كان قد بلغ 12 سنة.
قام الصيادون عندما عثروا عليه بقتل الذئبة التي كانت تعتني به، ومن ثم أرسلوه إلى باريس ليتولى الدكتور الشاب جان مارك إيتارد العناية به وتعليمه السلوك الإنساني مع إجراء التجارب عليه وفهم طرق مبتكرة لتعليم الأطفال ممن لديهم صعوبات تعلم او عانوا فقرا اجتماعيا او ثقافيا او ممن لم تتوفر لهم الفرص البيئية او الاجتماعية المناسبة لنمو سوي.
كان الطفل (الذئب) كما أطلق عليه أحيانا يمشي على أربع وينقض على فريسته انقضاض الحيوانات الكاسرة ويأكل اللحم نيئا ويتحمل درجات عالية من البرودة التي لا يتحملها البشر العاديون، كما أنه لا يتكلم بل يصدر أصواتا مثل الذئاب!
هذه الحادثة تثبت إلى حد كبير إلى أي حد يكون الانسان وليد البيئة التي يوجد فيها، وكما قال رسولنا الكريم صلوات الله وسلامه عليه (كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه او يمجسانه أو ينصرانه) أي ان الانسان يولد بفطرته الخالصة ولا يعرف دينا او ربا او قيما اجتماعية او أدبية أو ثقافية، لكن المحيط الاجتماعي وعمليات التنشئة الاجتماعية بمؤسساتها المختلفة وهي الاسرة والمدرسة والمسجد والشارع والنادي وحاليا وسائل التواصل الاجتماعي، بما فيها الانترنت او الجوال المحمول : كلها محيطات اجتماعية وثقافية ترمي أطفالنا وشبابنا كل يوم بالغث والسمين الذي يشكل في نهاية الأمر النسيج الاجتماعي والثقافي لنا كأمة وهنا يأتي السؤال:
أين الخطأ الذي ولد كل هؤلاء الدواعش نساء ورجالا بين ظهرانينا؟ هل هي الاسرة ام المدرسة ام النت ام المراكز الصيفية ام حلقات المسجد ام ام؟ ام هي جميعا تكاثفت بجهالة لتدعم نباتا شيطانيا ساعدته ظروف داخلية ومصالح شخصية وعامة وعالمية لنكون الأشهر والأكثر عددا وعدة من بين كل دواعش العالم، إذ وفق التقرير الذي نشر في الواشنطن بوست في فبرار 2015 فإن عدد المنضمين لداعش من دول الخليج حتى تاريخ نشر التقرير أي قبل 4 اشهر هم كالاتي :
من الكويت 71، ومن السعودية 2500 ومن الإمارات 15، فيما يلتحق بالتنظيم من قطر 15 والبحرين 12، واليمن 110، والعراق 247.
ولم نسبق في هذا التقرير ويا للعجب سوى تونس؟!!!!
ومن شاهد المقطع الذي تم تداوله عبر وسائط التواصل الاجتماعي حول التلميذ الذي اتصل بأحد البرامج الدينية في التلفزيون السعودي ليخبر المقدم وضيف البرنامج الذي هو احد الرموز الدينية المشهورة عن ظاهرة لاحظها في مدرسته حول تواجد كبير للدواعش من الطلبة حوله ولم يستطع المسكين ان يكمل الجملة فقد هجم عليه (الضيف والمقدم) نافيين ان يكون الحال كذلك في أي من المدارس التي أشار الطالب إلى انها احدى مدارس تحفيظ القران ( حسب الدراسة التي أصدرها د. إبراهيم الجريد فإنه وفي العام 1433 كان هناك أكثر من الفي مدرسة لتحفيظ القران في المملكة يدرس فيها حوالي ثلاثمائة ألف طالب يدرسهم أكثر من ثلاثين ألف معلم وتدعم الدولة الطلبة الملتحقين برواتب شهرية رمزية) ومن ثم فلم نفهم كيف توصل الطالب البسيط إلى استنتاجاته التي نفاها كلية مقدما البرنامج دون تحقق؟
هذا يطرح سؤالا مهما حول دور المؤسسات التعليمية ( والتدريسية) في تأصيل الفكر المنحرف بإعطائه الغطاء الديني الذي يبرر بل يشجع تناميه؟
وهذا فهد القباع منفذ تفجير الكويت الذي كان طالبا في جامعة الامام فصلا واحدا قبل ان يتركها ليقوم بالإمامة في احد مساجد القصيم ثم يتركها ليتجه لتبني الفكر الداعشي المدمر ورغم تبرؤ عائلته منه ومن أفعاله الا ان مساره الدراسي والعائلي يجب ان يطرح أسئلة ضخمة بضخامة الجرم المهول الذي أقدم عليه (من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا) (المائدة أية 32).
والأمر نفسه يقال بمفجر مسجد العنود وطبيعة البيئة والعلاقات السائدة في محيطه الأسري وربما في المدارس التي ارتادها؟
أما بالنسبة لوسائط التواصل الاجتماعي فملاحقات المخابرات وفي الدول الأجنبية تحديدا لرعاياها من المسلمين رجالا ونساء ممن تمت استمالتهم ما يسمى بتنظيم الدولة الإسلامية للانضمام اليه كبيرة ومستمرة؟ هذا طبعا غير أبنائنا نحن الذين تحاول مخابراتنا الباسلة تحجيم تحركاتهم الخطرة على بلدهم وأنفسهم فما العمل؟ وكأن الإرهاب أخطبوط يطوي جوانب بيئتنا الكاملة عائلة ومدرسة ومسجدا ومقهى ومركزا صيفيا واقرباء؟ فماذا علينا ان نفعل؟
من الواضح اننا لا نريد فعلا مواجهة المارد داخلنا، ولذا فلم نسمح بعد بتشريح مؤسساتنا الداخلية في العمق لكشف مشكلاتها الأمنية التي تهددنا جميعا ولن يكون ذلك الا بتبني استراتيجيات (فوقية) تؤسس لمسار استراتيجي يؤكد على خطأ مرحلة تاريخية كبيرة في تاريخنا المعاصر، وعلينا اذا اضطررنا أن لا نتردد في ان نبدأ من الصفر لنحمي المركبة الا تنقلب إذ نحن جميعنا داخلها حاضرا ومستقبلا، وكلنا قلوب ترتجف لحماية الوطن وحماية أنفسنا وأولادنا. لا نريد ان نرى الكوارث والتشرد والاضطراب الذي ملأ ارجاء العالم العربي يتسرب الينا، لذا فالسؤال:
متى سنقبل ونبدأ تدريجيا بخلع الأقنعة ومساءلة المؤسسات الاجتماعية المختلفة عن سوء حرثها الاجتماعي والثقافي؟