د. فوزية البكر
أعرف أن رمضان طار دون أن نشعر به أو نأخذ نفساً عميقاً يمكننا من تدبر حكمه العظيمة، لكن سرعة الأحداث التي تحيط بنا وقسوتها غير المسبوقة شغلت أذهاننا بهذا الإرهاب الذي ملأ العيون والعقول، ولم يُبقِ ولم يذر، حتى أن بنغالياً (أحمق) تنكر بزي امرأة في أحد الأسواق الشعبية بمدينة الرياض مؤخراً فأثار من الرعب ما أثار اعتقاداً من الموجودين أنه إرهابي يحاول تفجيرهم!
الإرهاب إذن هنا بين ظهرانينا شئنا أم أبينا.. ومن هنا تأتي أهمية محاولة فهم بعض ظواهره وتأمل مسارها؛ حتى يمكننا استيعاب فهم أكبر لظاهرة الأصولية والتطرف الديني، وهل هناك أفضل من التاريخ لنتعلم من أحداثه، وكما يقول الباحث هاشم صالح في كتابه العظيم (معارك التنويريين والأصوليين في أوروبا) الصادر عام 2010، أي قبل أن تبدأ كل هذه المجازر البشعة والحروب الأهلية الطاحنة والتقسيمات للبلدان العربية كما يحدث خلال السنوات القليلة الماضية؛ إذ يقول:
«الانفجار الكبير للظاهرة الأصولية المتزمتة انفجار يثير الرعب في النفوس، وهو ما أدى حتى اليوم إلى هذه الفرق الإسلامية المخيفة وإلى الحروب الأهلية وإلى تقسيم المجتمعات والأوطان، وأعادتنا مئات السنين إلى الوراء. إن ما يحل بنا من أحداث مأساوية لا يمكن أن نفهمها إلا إذا قارناها بحالة أخرى خارجة عنا واجهت نفس الظروف والمشاكل نفسها».
وهو محق فعلاً. ولعل الأقرب أو الأكثر توافراً من حيث المراجع والدراسات هي الحالة الأوروبية.
ويذكر صالح أن أوروبا دفعت ثمناً باهظاً من جراء الصراعات الدينية والمذهبية والطائفية، واشتعلت فيها الحروب الأهلية على مدار القرنين السادس عشر والسابع عشر، كما أن التعصب والحروب الأهلية المذهبية التي يدعونها في فرنسا بالحروب الدينية جرت أساساً بين الكاثوليك والبروتستانت؛ وبالتالي فهي لم تحصل بين دينين مختلفين وإنما بين مذهبين مختلفين داخل الدين الواحد؛ إذ انقسم العالم المسيحي في أوروبا إلى قسمين: قسم كاثوليكي وقسم بروتستانتي. ودارت بينهما المعارك والحروب على مدار مئتي سنة تقريباً. وهي حروب الأديان الشهيرة التي ذهب ضحيتها مئات الآلاف من القتلى.
ويضرب لنا الكاتب أمثلة من التاريخ وما حدث فيه، أحداثاً تقشعر لها الأبدان، لكنها للأسف تذكرنا بما يحدث اليوم في الشرق الأوسط من مذابح ومجازر، يروح ضحيتها الآلاف من الأبرياء الفقراء الذين لا ذنب لهم سوى أنهم من هذه الطائفة أو تلك، فمثلاً:
تم تدمير ألمانيا تماماً بعد حرب الثلاثين عاماً (1618-1648) التي بدأت بانتفاضة البروتستانت التشيكيين ضد مطران براغ الكاثوليكي الذي أغلق كنيستهم، ومنعهم من أداء شعائرهم الدينية بحجة أنهم هراطقة. والمضحك المبكي معاً أن كلا الفريقين كان يأمر جنوده بأداء صلاة طائفية، أي تركز على ما يميزهم مذهبياً عن الطرف الآخر. فالحرب كانت مقدسة وباسم الدفاع عن المعتقد.
فرنسا عاشت مجازر طائفية كبيرة، منها مذبحة فاسي عام 1562؛ إذ حصد الكاثوليك المتعصبون 74 بروتستانتياً وهم يؤدون الصلاة طبقاً لشعائرهم التي تختلف عن شعائر الأغلبية الكاثوليكية، لكن تبقى مجزرة سانت بارتيليمي أشهر من نار على علم، ولا تزال محفورة في الوعي الجماعي الفرنسي؛ إذ عرفت فرنسا بأنها كاثوليكية متعصبة، وكانت هناك حملة هوجاء على البروتستانت؛ لذا وفي عام 1572 تم استدراج زعماء البروتستانت إلى باريس، وذلك من مختلف الأقاليم، بحجة دعوتهم إلى زفاف مهم في القصر الملكي.
وفي منتصف الليل انقض عليهم الجنود الكاثوليك بسيوفهم ومزقوهم إرباً دون أن يستطيعوا حراكاً؛ فقد كانوا غارقين في نومهم، وكان المخطط هو أن يقتل الزعماء فقط وتوفر النساء والأطفال، ولكن الوحشية والطائفية والتعصب أعمى عيون الجنود؛ فما إن انطلقت الطائفية من عقالها حتى تم قتل الجميع في ليلة واحدة. ولم يقف الأمر على ذلك؛ إذ هاج الكاثوليك في مختلف أحياء باريس، وقتلوا كل من صادفوه في طريقهم من البروتستانت، ثم هجموا على بيوتهم أيضاً، وكانت النتيجة ما لا يقل عن ثلاثة آلاف قتيل خلال ثلاثة أيام. ولم تتوقف الأمور عند هذا الحد؛ فعندما سمعت المحافظات بالعملية هاجت هي الأخرى أيضاً، وتم قتل عدد كبير من البروتستانت في المدن الآتية: بوردو، تولوز وروان.. إلخ. وكانت الحصيلة سقوط ما لا يقل عن ثلاثين ألف شخص. وهنأ بابا الكنيسة غريغوار الثالث عشر ملك فرنسا على هذا العمل الجليل الذي أدى إلى استئصال الزندقة من المملكة الفرنسية الطاهرة وتلقي أنباء القتال باعتبارها رحمة من الله.
ثم تواصلت الحروب الأهلية والدينية حتى بلغت ذروتها على يد الملك لويس الرابع عشر؛ فقد أمر بسحق البروتستانت كلية إذا لم يعتنقوا المذهب الكاثوليكي، وعندئذ حدثت أكبر محنة مرت بها فرنسا في تاريخها، وهجر ما لا يقل عن ستمائة ألف شخص من البروتستانت فرنسا إلى بلدان أرحم مثل إنجلترا وهولندا، فيما شرد وقتل الباقون والفقراء.
و في إنجلترا حدث العكس تماماً: فالهراطقة هم الكاثوليك والمؤمنون الحقيقيون هم البروتستانت، وراح رجال الدين البروتستانت يصدرون الفتاوى التي تخلع المشروعية اللاهوتية عن الكاثوليك أتباع البابا الذي يمثل في نظر كل أبناء الطائفة البروتستانتية المسيح الدجال، ويكفي ذكر اسمه فيقشعر له البدن؛ إذ إن اسم البابا لدى الإنجليز مرتبط بالنظام الاستبدادي المطلق. إذن فالحرية هي البروتستانتية. ولأن الله مستحيل أن يكون مع الاستبداد والطغيان فهو بالتأكيد مع البروتستانت. هكذا تدعي كل طائفة نسبة ما تفعله إلى الله، ودفاعاً عن دينه، وهو منها براء.
وهكذا وقعت مجزرة مريعة لم تقل شناعة عما حدث في فرنسا؛ إذ قتل القائد الإنجليزي كرومويل نصف مليون إيرلندي كاثوليكي تماماً بدم باردة وباسم الدفاع عن الدين والمذهب والطائفة!
هكذا نرى أن التعصب الديني - وكما يشير هاشم صالح - هو واحد في جوهره؛ فالكاثوليك في إنجلترا كانوا ممنوعين من الوظائف العامة ومن امتلاك حصان تزيد قيمته على خمسة جنيهات، وهم مسؤولون عن كل الجنح في المنطقة التي يقطنون فيها، كما لا يجوز الزواج من بناتهم، وغير ذلك كثير. وهي نفس المعايير وأشد منها التي طبقتها فرنسا على البروتستانت، والنهاية ماذا؟
ستة ملايين ونصف المليون نسمة قدمتها أوروبا أثناء حروبها الطائفية في القرون الوسطى؟
إلا أيها الدين؟ كم من الجنح والخطايا والتجاوزات تقدم باسمك وأنت منها براء.. فمتى نستيقظ؟ ومتى ندرك حجم خطر الطائفية والتعصب الأعمى الذي زرعه جهلنا وزرعته مصالح قوى خارجية وداخلية لا يعنيها شرقنا الجميل سوى من خلال نفطه، فهل لنا أن نعتبر من التاريخ أم أننا نعيش قروناً وسطى كما عاشتها أوروبا من قبل؟