د. محمد بن عبدالله آل عبداللطيف
بمقدار الفقد تكون الصدمة، فلم أحد يتوقع رحيل شخص بحجم سعود الفيصل. و أكد المتحدث الرسمي لوزارة الخارجية أسامة نقلي وفاة وزير الخارجية الأمير سعود الفيصل بقوله: تمنيت لو أستطيع نفي إشاعة خبر وفاتك يا سعود مرة ثانية.
ونحن نقول ليتها كانت إشاعة. وبالطبع تنطوي هذه العبارة البسيطة البليغة على إحساس كبير بالألم مقرونا بأمنية القدرة على تغيير واقع حصل بالفعل. وبالطبع لا اعتراض على إرادة الله و قضائه، وصدق قول الحق: إنك ميت وإنهم ميتون، وإنا لله وإنا إليه راجعون. ولا نملك إلا الدعاء للفقيد بالرحمة والمغفرة وأن يتقبله الله قبولاً حسناً ويحشره بين الشهداء والصديقين.
فقد عانى غفر الله له من مشاكل صحية كبيرة لم تكن خافية على أحد، وقد وصفها هو نفسه رحمه الله عليها بأنها أشبه بحالة الأمة العربية المريضة، لكن العمل الدؤوب والتغلب على الألم والوجع، والتسامي في خدمة الوطن ورؤيته طيب الله ثراه في كل المحافل وكل الأماكن هو ما جعلنا نستبعد دنو أجله. فقد لقى حتفه واقفا في ساحات وفى العمل الدبلوماسي مدافعاً ليس عن المملكة فحسب بل عن الأمتين العربية والإسلامية.
ترجل سعود الفيصل عن العمل الدبلوماسي بقضاء من الله وقدره في يوم فضيل وشهر فضيل، في العشر الأواخر من رمضان وفي ليلة 23 منه، فلعل الله يحتسبه من الشهداء لأنه أفنى عمره جهاداً في سبيل رفعة دينه وأمته، دفاعًا عن الإسلام في أحلك مراحل مر بها في التاريخ حيث استهدف من الداخل والخارج، من الإرهاب ومن القوى الخارجية. وبينما أحس أقرانه وزملائه في الدول الأخرى بالملل والتعب واليأس، ظل واقفاً منافحاً بلا كلل ولا ملل لأنه يعرف أن ذلك كله في سبيل الله.
أربعون عاما في العمل السياسي والدبلوماسي لا شك إنجاز عظيم، ولكن الأعظم هو أن يشيد بك خصومك قبل أصدقائك، وأن تغادر الساحة الدبلوماسية بلا أعداء، فجميع أعداء سعود الفيصل رأوه خصماً لا عدواً ورأوا أن خصومته تثير إعجابهم فقدروه ولم يجرؤ أحد منهم أن يشكك في عروبته أو وطنيته لأنهم يدركون جيداً أنهم سيحتاجونه إلى صفهم في معارك دبلوماسية مشتركة مستقبلاً. ولا غرو أن أعداءه تمنوا صراحة لو كان في صفهم لأن ذلك سيغير موازين القوى الدبلوماسية لصالحهم. فد كان فارس الدبلوماسية في عصر شح فيه الفرسان.
سجل سعود الفيصل الدبلوماسي هو ببساطة تاريخ المنطقة والعالم بل إنجازاتها ومآسيها، وبكل انفراجاتها وأزماتها. وما أن يتجاوز التاريخ مرحلة ما إلا ويدرك الساسة والدبلوماسيون بتقدير انعكاسي للأمور أن نظرته كانت صحيحة وأن قراءته للأحداث التاريخية دقيقة. ولعل من أهم إنجازاته الوطنية الابتعاد بالمملكة والخليج عن ساحات الصراعات في المنطقة بالرغم من محاولات أعدائها التي لم تتوقف للزج بها في صراع عسكري. ولذا رثى عبدالله بن زايد وزير خارجية الإمارات الفقيد بقوله: رحل المعلم وبقي المنهج. نعم سيبقى منهج سعود الفيصل نبراساً لمن بعده، لكن شخصيته وحضوره وكاريزما شخصيته لن تتكرر.
وقد رثت معظم صحف العالم الكبرى فقدان الأمير سعود الفيصل بما لم تفعل من قبل لأي وزير خارجية، واتفقت على أن رحيله كان خسارة كبيرة للدبلوماسية العالمية. وقد رثاه الرئيس الأمريكي بقوله: «إن الأمير سعود الفيصل كان دبلوماسياً ملتزماً بارعاً، عاصر خلال عمله وزيراً للخارجية بعضاً من أكثر الفترات تحديا في المنطقة وكان هدفه دائما الاستقرار و السلام، فهو من فاوض على إنهاء الحرب الأهلية في لبنان، وساعد على إطلاق مبادرة السلام العربية. ولذا لقد استفادت أجيال من القادة والدبلوماسيين الأميركيين من مهارة واتزان ورؤية وكاريزما الأمير سعود الفيصل ... وسوف يكون إرثه باقياً في جميع أنحاء العالم» . كما رثاه زميله وزير الخارجية الأمريكية بوصفه: رجل خبرة واسعة، ودماثة خلق، وكرامة عظيمة، ونظرة ثاقبة، وقد خدم بلده بكل أمانة وإخلاص. وأضاف: أنا شخصيا معجب به لأبعد الحدود واعتز بصداقته، وأثمن مشورته، وإرثه كرجل دولة وكدبلوماسي لن ينسى أبدا.» وقد وصفه كولن باول وزير خارجية أمريكا إبان حرب الخليج بأنه بحجم «لوبي سعودي»، وأشاد وزير خارجية بريطانيا بصراحته ووضوح رؤيته. وينقل عن الرئيس صدام حسين أنه قال: أنا لا أخشى من الساسة إلا سعود الفيصل، حاربت إيران فقلب العالم معي، ودخلت الكويت فقلب العالم ضدي. ولن يتسع المقام لكل ما قيل في رثاء الفقيد لأننا سنحتاج أكثر من مقال حصرياً لذلك، فقد ملأ رحمه الدبلوماسية صخباً وهو على قيد الحياة وملأها حزناً عندما رحل.
ولم يكن سعود الفيصل مقنعاً لحكومته فقط بل كان ينصح زملاءه بكيفية إقناع حكوماتهم فقد كان معلماً حقاً في فنون الدبلوماسية. قدم النصح للفلسطينين، وللكويتيين، وللبنانيين،والبحرينيين حول كيفية تجاوز أزماتهم. هندس اتفاق الطائف، ومؤتمر مدريد 2،1، وعملية إخراج العراق من الكويت. وكان عروبيًا متحمسًا وكان خلف إخراج الجامعة العربية من القاهرة لتونس بعيد توقيع السادات لاتفاقية كامب ديفيد، ولم يذكر عنه أن صافح مسئول إسرائيلي قط.. وهو من سعى لاحتواء الفرقة العربية بعيد انتهاء أزمة الكويت للتركيز على قضايا العرب المصيرية، ولولا المصالح الفردية وانعدام أجواء الثقة لتحقق الكثير من المبادرة العربية التي رفضها بعض من يبكون ضياعها اليوم.
بوفاة الأمير سعود الفيصل انطوت صفحة مهمة من تاريخ الدبلوماسية السعودية والعربية، وانطفأت شمعة من شموع تاريخ السلم العالمي، فقد نأى بنفسه وتسامى فوق كل خلافات سواء كانت داخلية أو خارجية وبقي ركن أساسي في الدبلوماسية الإقليمية والعالمية، عاصر رؤساء دول، ووزراء خارجية لا حصر لهم ولا عدد. وكان كالنحلة مشغول على مدار الساعة، ينام قليلا ويعمل كثيرا، وكان لمشاكل المنطقة وأزماتها المتتابعة أثر كبير في إشغال وقته وإرهاق جسده ولذا لم يكن لديه وقت لكتابة مذكرات أو كتب عن تجربته العريضة، وهذا بحد ذاته خسارة كبرى فتاريخ عمل سعود الفيصل هو تاريخ المنطقة والعالم لنصف قرن.
سعود الفيصل اليوم بين يدي ربه، ولا بقاء إلا لوجهه جل وعلى، ولكن فقدانه في هذه المرحلة بالذات حقاً مفاجأة محزنة و لكن لا مرد لقضاء الله وقدره وإنا لله وإنا إليه راجعون، ولكن يبقى أن يقدم الوطن لمسة وفاء للشهيد تحفظ ثمن تضحيته في سبيل الوطن، وتقدره حق تقديره، وبما أننا أمة لا تؤمن بنصب التماثيل فلا أقل من تخليده بمعلم حضاري يسمى باسمه يحوي متحفاً له تحفظ فيه مقتنياته، ومكتبة تحوي الوثائق التي سطرها و ما كتب وسيكتب عنه. أو أن يحول المعهد الدبلوماسي بوزارة الخارجية إلى جامعة مصغرة للدراسات السياسية والدبلوماسية تحمل اسم الفقيد وتدرس فيها إنجازاته ومنهجه.