د. محمد بن عبدالله آل عبداللطيف
تحتاج التنمية، بخلاف النمو الآلي، لتخطيط دقيق وعمل دؤوب. والتنمية لم تعد خياراً للشعوب بل تحتمها عدة عوامل من أهمها الطموح لمستوى معيشة أفضل، والتغلب على النمو السكاني، وتحقيق الأمن الوطني، وضمان موقع أفضل في خارطة العالم. ولا بد أن تشمل التنمية كافة جوانب المجتمع، إذ أثبتت التجارب ومنها تجاربنا السابقة أنه..
لا يمكن حصر التنمية في جانب واحد مثل الجانب الاقتصادي من دون تنمية تشمل الجوانب الفكرية والاجتماعية والثقافية، بل وبدون انفتاح على العالم من حولنا. فما يزرع بالأمس يحصد اليوم، وما نشاهده من جوانب اجتماعية ومهما كان حالها اليوم يعكس مدى نجاعة خطط تنمية الأمس.
وتتفاوت الدول بشكل كبير في مدى نجاح خططها التنموية، فلو نظرنا لدول أجنبية ككوريا أو إسرائيل أو الصين أو سنغافورة أو الهند ونظرنا لحال دولنا العربية لأتضح لنا الفرق. وأثبت العلم اليوم بشكل قاطع ألا اختلاف بين البشر والأعراق وأن الفرق بين الدول المتقدمة والمتخلفة هو التبكير في التنمية والدقة في التخطيط والأمانة في التنفيذ. فالدول التي بكرت بالتنمية اعتبرتها هدفاً ساميًا وجعلتها أساس الروح الوطنية ونسجت حولها خطاب الروح الوطنية، فالوطنية فيها تقاس بمدى المشاركة الحقيقية في التنمية. وكانت التوقعات وفق المعطيات البشرية والمادية في وسط القرن الفائت، مثلاً، تشير إلى أن مصر هي من تحتل مكان كوريا اليوم، ولكن التخطيط والتنفيذ أتى كما هو معلوم بنتائج مختلفة في البلدين. وتوقعات أخرى أيضاً أن تكون الجزائر هي العاصمة الصناعية لأفريقيا ولكن التنمية فيها تعثرت كسابقتها. ودولنا توفرت لها من إمكانات مادية ميسرة غير مسبوقة، ولكن باستثناء دولة أو دولتين حققت تنمية أكثر ما يمكن أن يقال عنها أنها متوسطة مقارنة بغيرها ممن توفرت لها موارد أقل، والسبب هو التردد في إيجاد تنمية متوازنة والتركيز على تنمية الجوانب الاقتصادية فقط.
وعموما فمن ينظر لحال الدول العربية والصراعات الدموية التي تحصل فيها يشعر بالحزن والأسى ليس فقط لفشل خطط التنمية بل للانتكاس لتدمير القليل التي تم بناؤه في محاولات التنمية الخجولة السابقة وما تم توارثه حضارياً من سنين غابرة، وهذا أوضح دليل على عجز الأجيال السابقة في تحقيق الحد الأدنى من التنمية المتوازنة. فقد تمت صياغة الإيديولوجيات والخطابات بشكل متضارب حصري أما حول القومية العرقية أو الروح الدينية دون التركيز على المشاركة التنموية. فغموض الأهداف والتردد أدى إلى الضعف الفكري والتمجيد الشخصي وانتشار الفساد فكانت الإنجازات تنحصر في الانتصار في الصراعات القومية أو الانتصار الإيديولوجي الديني دونما تنمية حقيقية. أي تم التجاهل بشكل شبه تام ما يمكن تسميته بالوطنية التنموية. ولم يقتصر ما يحصل في منطقتنا على فشل في التطور بل وفي نمو سلبي لكافة أوجه الحياة واستهتار غير مسبوق بقيمة حياة الإنسان غير مسبوق حتى في أكثر عصور تاريخنا انحطاطا. فلا غرابة أن التجارة الأكثر رواجاً في منطقتنا اليوم هي تجارة السلاح، حتى وصل فائض السلاح المتراكم حداً مكن كل مجموعة من الأشخاص من تأسيس جيش خاص بها تسعى به لفرض مفهومها الخاص للولي أو الخليفة.
فاللحاق بركب التطور والتحديث يتطلب التخطيط على مستوى شامل متكامل الرؤية لأنه توجد اليوم تكتلات كبيرة، ومصالح معولمة وتحد كبير للاندماج في هذا الفضاء التنافسي الكبير الذي حولته التقنيات الحديثة إلى قرية صغيرة كما وصفه مارشال ماكلوهان. وليس سراً أن ما فتح باب التنمية لنمور آسيا وبعض دول أمريكا اللاتينية هو تخطيطها السليم وإدراكها المبكر لأهمية الاندماج في هذا العالم وليس الانعزال عنه، فالعولمة لم تكن فقط في الجوانب الاقتصادية ولكن في الجوانب الثقافية أيضا، فالعالم يتحرك ثقافيا في اتجاهين أحدهما طردي والأخر مركزي، أي أن العالم اليوم مهيأ أكثر من أي وقت مضى لتقبل التنوع الثقافي ولكن ضمن معايير معينة لا تستطيع دولة بمفرها تغييرها، واستيعاب الثقافات المحلية التي تتأقلم سريعا مع وتيرة التغير السريع أصبح أسهل من ذي قبل. وبمقدار المرونة يكون الرفض للثقافات المنكفئة على نفسها التي تصر على تكييف العالم مع معاييرها.
ولذا، فإذا ما أرادت دول الخليج التنمية الحقيقية فلا بد من أن تندمج مع هذه الثقافة العالمية وفق منظور مدروس بعناية لتحقيق المعادلة الصعبة في الحفاظ على الثقافة المحلية والاندماج في فضاء الثقافة العالمية. والتأخر في التخطيط لتنمية حقيقية على كافة الأصعدة تزداد كلفته يوماً بعد الآخر. ولا بد من الشجاعة في إعادة صياغة الرؤى الثقافية والاقتصادية للتوائم مع معايير العالم الخارجي، وإلا فالنتيجة الحتمية هي حالة الاغتراب العالمي التي نعيشها اليوم عن العالم وعجزنا عن التكيف مع منجزاته المتلاحقة وانتشار حالات من التطرف الرافضة تلقائيا لكل ما هو جديد التي تصر على التبني الحرفي لموروثات ثقافية تبعدنا عن الاندماج مع العالم حتى ولو تطلب ذلك اللجوء للعنف كما نشاهد حولنا اليوم. فالبعض يتخذ الدين مبرراً للتصادم مع العالم الخارجي مع أن ديننا الإسلامي يقول بعكس ذلك تماما، فهو الدين الوحيد الذي نزل للبشر كافة، دين أممي متصالح مع جميع الثقافات في كل زمان ومكان، و لا يعني ذلك بالطبع إعادة البشر كافة لعصر معين في التاريخ الإسلامي بل بالانتقال للزمان والمكان الذي يفرضهما التطور البشري العالمي، فالزمان والمكان لا يكونان مجردان بل يعينيان طبيعة الثقافات الموجودة فيهما. وجدلية تطور الدين الإسلامي مع مستجدات العالم وجدت في جميع مراحل التاريخ الإسلامي ولذا انتشر وتواءم مع ثقافات الصين وأسبانيا وفارس وتركيا وغيرها. وعندما عرضت على الرشيد أول ساعة في التاريخ لم يقتص من صانعها لأنها بدعة بل أهداها افتخاراً لشارلمان، ولم يُرجم المسلمون الذين صنعوا الاسطرلابات بالتنجيم مع أنها كانت تبدو كحسابات سحرية حينئذٍ فطوروها وطوروا علوم الفلك الذي يدرس الكواكب والسماوات، وهنا تجلت حضارتهم، فلم يكن الإسلام ديناً متردداً او متوجساً قط. بينما أعدمت الكنيسة الرومانية قالييليو بتهمة الهرطقة لأنه أثبت دوران الأرض حول الشمس، ولم يظهر التنوير وتبدأ الثورات العلمية و الصناعية إلا بالتخلص من ضيق أفق الكنيسة الرومانية التي كانت جامدة وفاسدة.
نفتقد اليوم الخطط التنموية الجريئة المتوازنة التي تهيئ الأجيال الجديدة لفهم العالم الحديث والاندماج فيه لا التنافر معه ويكون ذلك بناء على معطياتنا الثقافية لا معطيات دول أخرى كسنغافورة وكوريا أو اليابان كما تخبطنا سابقا. فالمهمة صعبة وليست مستحيلة ولكن لا يمكن تحقيق الكثير بالتردد أو بأسلوب التجربة والخطأ. فنحن سبق واتبعنا السير على خطى الآخرين، بلوم مخرجات جامعاتنا، ثم لمنا لغتنا العربية، ثم دار الكلام حول الاستعانة بما يسمى «بالخبرات الدولية»، وأخير بدأنا بابتعاث أعداد كبيرة من الشباب ليعود كثير منهم غير مؤهل وظيفياً لأنهم يذهبون لمدارس أضعف من جامعاتنا بسبب الاعتقاد أن الحديث بلغة أجنبية كالإنجليزية كاف للتأهيل للعمل. والأدهى من ذلك أن البعض يرى البعثات أسلوباً لتنوير الشباب لمساعدتهم على التأقلم مع العالم، التأقلم خارج أطر الثقافة المحلية الذي لا يمكن تحقيقه في جامعاتنا. والحقيقة أن جميع الدول التي نهضت مؤخراً هي دول لا تتكلم الإنجليزية ولا غيرها ومنها الصين والبرازيل وكوريا، وهي تبتعث طلاباً للخارج ولكن ضمن برامج دقيقة وحاجة محددة سلفاً وفي أفضل الجامعات وفي تخصصات معينة فقط، ولذا لا يجدون صعوبة كبيرة في التكيف معها ولا صعوبة في العودة والتأقلم من جديد. يعودون ليخلقوا الوظائف بدلاً من البحث عنها. فلا يمكن خلق أي تنمية حقيقية بدون جامعات منفتحة حديثة تقود قطار التنمية والكثير منا يعرف معوقات الجامعات لدينا والمطلوب فقط هو إرادة حقيقية لتطويرها.