د. عبدالحفيظ عبدالرحيم محبوب
الخروج من الأزمة المالية لعام 2008 لم تكن بحلول جذرية بل باعتماد حلول سهلة، كالتيسير الكمي وعملية طبع النقود بلا قاعدة إنتاجية لها من أجل توجيه النقد الإضافي إلى شراء أصول وسندات حكومية من السوق، ما فاقم المديونية التي أصبحت تتجاوز 200 تريليون دولار نهاية عام 2014، حتى أصبح هناك فائض من المدخرات على حساب الاستثمار.
دخل الاقتصاد العالمي حلقة مفرغة من طفرات الائتمان، حتى ارتفعت نسب الدين العام إلى الناتج المحلي الإجمالي وصلت إلى 220 في المائة في الصين، لكن الدين الحكومي عند 41 في المائة، في حين يرتفع في الولايات المتحدة إلى 106 في المائة، ويرتفع في أوروبا إلى 137 في إيطاليا، و174 في اليونان، وأعلاه في اليابان بـ 245 في المائة.
عندما قادت أمريكاً العالم إلى أزمة مالية كارثية عام 2008، كان عدد قليل من توقع أنها ستكون أول من يعتق من الفوضى التي استحدثتها، بعد أن كانت الرسملة السوقية الأوروبية في عام 2008 تفوق نظيرتها الأمريكية بأكثر من تريليون دولار، بينما تفوق الرسملة الأمريكية اليوم نظيرتها الأوربية بـ 10 تريليونات دولا.
لكن هناك نقاش حول كيفية إخراج العالم من الركود طويل الأمد، ما يعني أن الركود طويل الأمد يخفي مشكلة أعمق داخل الاقتصاد الكلي، الذي يتسبب في انخفاض حاد في معدلات النمو التي تدوم لفترة طويلة جداً فشلت معه جميع النظريات ونماذج الاقتصاد الكلي.
ظهور عدم الاستقرار المزمن هو التحدي الذي يعادل الاقتصاد الكلي اليوم، خبراء الاقتصاد يبحثون عن أدوات جديدة حتى تخفف من التركيبة السامة بين الديون المرتفعة وبين نمو الناتج المحلي الإجمالي (الاسمي والحقيقي على السواء)، وكيف تجعل الأزمات أكبر درس من عدم جعل الديون تتفوق على القدرة طويلة الأجل لأي اقتصاد من أجل دعمه في المقام الأول. طفرات الائتمان لم تنشأ من العدم، إنها نتيجة السياسات المعتمدة لتعزيز الطلب من خلال الرفع المالي وطفرات الائتمان التي يقودها القطاع الخاص، استفاد منها بالدرجة الأولى الناس الأكثر ثراء في المجتمع يسمى تأثير الثروة، كما لا يوجد دليل واضح على أن المكاسب المتعلقة بالأسهم قد ساهمت في النمو الاقتصادي الحقيقي، باعتبار أنها لا تمثل استهلاكاً إضافيا، بل هي في الأغلب مضاربات، رغم أن أسواق الأسهم تمثل صورة لشركات إنتاج حقيقي.
البحث عن أدوات جديدة تنشط من النمو الاقتصادي في الوقت الذي عجزت فيه السياسات غير التقليدية، لأن ضعف النمو يعني أن التسهيل الكمي لا يستحق تكلفته، أو على الأقل البعض يعتبر أنه نمو أمريكي لا يستفيد منه الجميع، بسبب أن الانتعاش في عهد أوباما بطئ للغاية وفقا لمعايير ما بعد الحرب العالمية الثانية، لكنه سريع مقارنة بمعظم بقية العالم، حتى أن التفاؤل الأمريكي يدفع السوق الصاعدة إلى موقع القيادة.
لايزال الاتحاد الأوربي معصوب العينين بإمكانه التعلم من أمريكا العوراء بعدما شقت طريقها إلى نقطة تستطيع فيها أن تفكر في الإصلاحات الهيكلية حتى لو كانت غير واقعية من الناحية السياسية، بعدما أصبحت أمريكا على أعتاب نمو معقول، بينما الاتحاد الأوربي في خطر الغرق تحت الأمواج، بسبب الاختلاف المتزايد بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوربي ماركسي نتيجة سياسة التقشف التي اتبعها.
العنصر الأكثر أهمية في طفرة النمو الأخيرة في الولايات المتحدة جاءت من انخفاض أسعار النفط إلى النصف تقريباً، وضعت مئات الدولارات الإضافية في جيوب الأمريكيين، ما أدى إلى زيادة الإنفاق الاستهلاكي، وكان كافياً لتعويض نمو الأجور الحقيقية.
هذا التحسن المتواصل أتى من ارتفاع الأصول الأمريكية ومن طفرة في سوق الأسهم، ساعدت على انتعاش سوق الإسكان، وتقييمات التقاعد، لكن ينبغي أن ينجو احتمال اندفاع في أسعار الأصول الأمريكية إذا ما نجت من التشديد التدريجي في السياسة النقدية.
رغم هذا النمو، هناك البعض يرى أن هذا النمو لا يستفيد منه معظم الأمريكيين، ولن تتحول الولايات المتحدة إلى المحرك التوأم للاقتصاد العالمي، يتطلب إدارة مآزق ما بعد الأزمة بمزيج من الاعتراف الفوري بالخسائر حتى لا تجعل الديون تتفوق على القدرة طويلة الأجل لأي أقتصاد، وضبط طفرات الائتمان للهروب من هذه الدورة القاتمة وعلى ما يبدو قاسية، وإعادة رسملة القطاع المصرفي وسياسات مالية ونقدية حتى تكون عملية وداعمة لتعزيز النمو الاقتصادي.
بعيداً عن المعالجة بالسياسات النقدية بجعل تكاليف الاقتراض في حدها الأدنى، والمعالجة بالسياسات غير التقليدية، مثل سياسات التسهيل الكمي لتوفير السيولة، هناك نموذج التمويل بالمشاركة، باعتباره أكبر حافزاً لتنمية المشروعات الإنتاجية التي تصب في صالح النمو الاقتصادي الحقيقي وفق قول الله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ}.. لأن المقرض قد يكون مظلوما إذا ما انخفضت القيمة الشرائية للعملة، والعكس قد يكون ظالما إذا لم يشترك في المخاطر مع المقترض، هذا النموذج حرمه الدين الإسلامي، لذلك قال الله سبحانه وتعالى لا تظلمون ولا تظلمون، بالطبع هناك نماذج تمويل إسلامية، مثل التمويل بالصكوك المغطاة بالأصول المقابلة للسندات، وهي بديل جيد للاستثمارات، وتقدر الأصول الإسلامية بـ 1.8 تريليون دولار بنهاية عام 2013، إذ تعتبر المؤسسات المالية أقل تعرضاً للأزمات لخصائصها المتعلقة باقتسام المخاطر وتمنع من تضخم الأصول التي تقود إلى الفقاعات.
يعتبر التمويل عبر المشاركة قاصر حتى الآن عن ابتكار أدوات تمويلية جديدة، باعتبار أنه نموذج يحظر المضاربة، ويقوم التمويل على الأصول، وبذلك فهو نموذج يعتبر مضمون بالكامل يركز فقط على النمو الاقتصادي الحقيقي وليس نمو الأموال وتضخمها، وللمودع الخيار بين أن يصبح مستثمرا في البنك ويقتسم الأرباح والخسائر، وبين أن يكتفي بإيداع أمواله في البنك لحمايتها من دون الحصول على عوائد. هذا النموذج هو حل للأزمات التي يتعرض لها الاقتصاد العالمي، ولكنه قد يكون غير مقبول بسبب إدمان الاقتصاد العالمي على توليد السيولة العالية التي لا يوفرها النموذج الإسلامي عبر المشاركة.