د. عبدالرحمن الشلاش
في نهاية الأسبوع الماضي توجَّهت للصلاة على قريبة لي وتشييع جثمانها. في المسجد الكبير حيث الصلاة، وفي المقبرة حيث الدفن، التقيت كثيرين، فيهم أقارب وأنساب وأصدقاء وزملاء لم أقابلهم منذ زمن. حين عدت لأفتش في ذاكرتي عن أقرب لقاء جمعني بآخر واحد قابلته منهم وجدت أنه لا يقل عن السنة. أما البقية فتتراوح بين السنتين والثلاث، وربما أكثر!
لا أخفيكم، فقد انتابني شعور بعدم الرضا على حالات القطيعة، وإن كنت أرى أننا نتشارك جميعاً في ذنبها، خاصة مع من نتساوى معهم في الحقوق والواجبات، مثل من هم في أعمارنا وأبناء العمومة والأخوال والزملاء. أما الأعمام والأخوال ومن يكبروننا في السن، ومن لهم حق علينا، فالواجب لهم دون شك.
للأسف، تفرِّقنا دروب الحياة، وتجمعنا المقابر حين نواري جثمان عزيز لدينا الثرى. وإذا لم نلحق بالصلاة والدفن نشخص لمكان العزاء لتقديم الواجب، وبعدها نتفرق. نحزن، وتؤنبنا ضمائرنا على قلة الوصل وطول القطيعة تحت تأثير طقس الحزن المحيط بنا؛ فنعزم على التغيير للأفضل.. وكي نضمن صلة أوثق في المستقبل نجدد العناوين، ونتأكد من صحة أرقام جوالاتنا، أو نتبادل الأرقام مع من لا نحتفظ بأرقامهم، وعندما نغادر تلك الأمكنة تعود حليمة لعادتها القديمة، وكأنما ابتلعتنا دوامة الحياة؛ لننشغل بأعمالنا وظروفنا الأسرية ومحيط علاقاتنا الخاصة التي كونتها المصالح الشخصية أو الصداقات أو مجموعات الزملاء القريبين من القلوب لاعتبارات أغلبها عاطفية، فضلاً عمن يلتهم وقتهم السفر، أو الرحلات البرية، أو المكوث في الاستراحات، أو التسمر أمام الشاشات، أو التنقل بين مواقع التواصل الاجتماعي لساعات طويلة، حتى بتنا جميعاً مشغولين وغارقين إلى «شوشتنا»، وصار بعضنا مشغولاً من غير شغل سوى تسالٍ صرفتنا عن أعز الناس. نتحمل كلنا هذا الوزر دون استثناء إلا قلة قليلة، تُعد اليوم من النوادر في عصر شح فيه الوفاء؛ فقلَّ الوصل، وزاد التقاطع، فلا نجد إلا الزمان لنعيبه، رغم أن العيب فينا.
هل ما يحدث هو تقصير يشترك فيه الجميع؟ الإجابة «نعم»؛ فعلاوة على ما ذكرتُ نجد الناس قد حوَّلوا منازلهم إلى غرف سكنية، أما غرف الاستقبال فتحولت إلى صوالين لعرض مقاعد الجلوس بألوانها الجميلة وموديلاتها المتنوعة، والمناظر الجدارية بأحجامها المتباينة، وسجادها ذي القيمة العالية.. ورغم ما أُنفق فيها من مبالغ تعاني الهجران إلا من مرور الشغالة لتنظيفها، وإزالة ما علق بها من غبار تراكم في مكان هجره حتى أهل البيت.
إن فكرت أن تزور أحدهم في منزله فلا بد من ترتيب مسبق، وربما يسألك بعضهم عن الهدف من الزيارة، هذا إذا لم يعتذر لك بسبب ارتباطاته ومشاغله. وقد ينقل مكان اللقاء إلى كوفي في أحسن الظروف.
حتى المناسبات الكثيرة، التي كانت فرصة للم شملنا، أُلغيت، أو قُلصت. حفلات الزواج قصرت على الرجال، وحُرم منها النساء والأطفال. اللقاءات العائلية باتت تخضع لمزاج بعض المتنفذين أو الإقصائيين فيها.. ولقاءات الزملاء والأصدقاء يهددها التأجيل والتسويف. صرنا نعيش في عالم أخشى أن يأتي يوم صعب لا يجد فيه أهل الميت من يشيع فقيدهم إلى مثواه الأخير!