محمد سليمان العنقري
منذ انطلاقة اليورو قبل ستة عشر عاماً وجميع التوقعات انصبت على أنه سيتقاسم دور العملة الاحتياطية العالمية مع الدولار، بل إن التفاؤل وصل إلى أنه سيتفوق عليه، وأن الكيان الأوروبي الذي بنى اتحاده الكونفدرالي قبل ستة عقود قد وصل إلى مرحلة التفوق الاقتصادي بإعلانه الوحدة النقدية وتجمع دول يبلغ ناتجها ما يفوق 16 تريليون دولار، أي أعلى من الولايات المتحدة الأمريكية؛ ما يضع الأوروبيين على طريق العودة لتسيد العالم اقتصادياً وسياسياً.
إلا أن لليونان العضو الصغير بحجم ناتجه المحلي رأياً آخر؛ فتفاقُم المديونية والتدهور الاقتصادي أديا لإعادة النظر مجدداً بالرؤية حول مستقبل اليورو، وهل المنظومة الاقتصادية التي تقع تحت مظلته قادرة على البقاء متحدة بعملتها الجديدة؟ أو على الأقل، هل سيتقلص عدد الدول التي تنتمي للوحدة النقدية؟ فالتصويت بلا الذي قرره اليونانيون وضع كبار دول اليورو أمام اختبار قاسٍ جدًّا، قد ينظر له أنه اقتصادي، لكنه بالحقيقة متشعب، ولا يخلو من مخاوف سياسية كبرى، قد ينتج منها تحولات بالمزاج العام لطبيعة ونوعية الطبقة الحاكمة بأوروبا.
لكن الحقيقة المرة التي باتت ظاهرة هي ما يتعلق بمستقبل الاتحاد النقدي الذي أنجب للعالم اليورو منافس الدولار الأول. ورغم أنهما كانا متقاربين بالقيمة في بداية العمل باليورو إلا أن الفارق اتسع بسنوات قليلة؛ ليصل قبل أقل من خمسة أعوام لصالح اليورو بسعر 1.64 دولار لكل واحد يورو؛ ما فاقم من وضع اقتصاديات العديد من دول اليورو نتيجة لارتفاع قيمة السلع المصدرة منها؛ ما أضعف تنافسيتها، وكذلك ارتفاع تكاليف السياحة فيها التي تعد أهم مصادر الدخل فيها، وكانت النتيجة الحتمية مع انفجار الأزمة المالية العالمية من أمريكا عام 2008م أن تتسارع التبعات السلبية على دول اليورو لتبدأ بالتساقط تدريجياً في فخ الأزمات، وليواجه البنك المركزي الأوروبي المشكلة في ظل أوضاع اقتصادية عالمية صعبة.
ومن المهم التذكير بأنه أياً كان الحل النهائي لأزمة اليونان فإنها تبقى دولة، وستعود للاستقرار ولو بعد سنوات كما حدث بكثير من الدول التي أفلست، وعادت للاستقرار ثم النمو.. لكن المشكلة هي ما سيظهر من تقييم واقعي لجدوى الاستثمار بمنطقة اليورو من الأجانب خصوصاً؛ فلن يكون اليورو ملاذا آمناً للاستثمار، وقد تكون الكثير من الأموال هاجرت للدولار، وبقية الأسواق الأكثر وضوحاً أو أقل خطراً.. فحفظ قيمة الثروة يؤرق أي مستثمر أجنبي، وحتى محلي، ويدعوه للهجرة عن العملة التي تواجه عدم وضوح واستقرار لمستقبلها، ولن يفكر بالعودة لها ولأسواقها المالية بسهولة، وسينتظر سنوات حتى يثق باستقرار العملة. فتراجع اليورو بأكثر من 30 في المئة أمام الدولار ليصل حالياً عند 1.10 دولار لكل واحد يورو لا يعطي طمأنينة للمستثمرين العالميين وحتى الأوروبيين؛ ما يعني العودة لتقييم توجهاتهم من جديد، مع التركيز على الدولار بنسبة أكبر في استثماراتهم على حساب اليورو، بل حتى للدول التي ترتبط عملاتها بالدولار بسعر ثابت؛ فالشكوك ستبقى مسيطرة لدى المستثمرين حول مستقبل اليورو.
إن قدرة الأوروبيين على تجاوز الأزمة قد لا تبدو مستحيلة أياً كان الاتجاه، لكن بكل سيناريو سيكون الثمن كبيراً، ويبدو أن تحذير خبراء الاقتصاد مثل ميلتون فريدمان الحائز جائزة نوبل بالاقتصاد، الذي قال إنه لن ينفع دول ذات احتياجات اقتصادية مختلفة أن تتحد نقدياً بدلاً من الوحدة المالية، وهو ما ذهب إليه الكثير أيضاً بأنه كان يجب الاتجاه للوحدة المالية قبل النقدية، إلا أن هذه الأخطاء التي وضعت اليورو أمام تحدٍّ كبير، يهدد مستقبله كعملة منافسة للدولار، كانت في صالح الأخير الذي يبدو أنه أكبر الكاسبين على المديَيْن المتوسط والبعيد؛ ليبقى هو عملة الاحتياط الأولى عالمياً لعقود قادمة دون عناء.