أ. د.عثمان بن صالح العامر
جزماً هذا القطع ليس بالأمر الهين، ولا يمكن أن يقوله عاقل بهذه البساطة المتناهية، خاصة ونحن نرى القوات الأمريكية تصول وتجول في عالم البر والبحر والسماء، وسياستها الخارجية تتحكم في كثير من مفاصل القرارات العالمية، سواء من خلال الهيئات والمنظمات العالمية أو عن طريق جيوبها وطابورها الخامس المنتشر في أرجاء المعمورة، أو من خلال تحركاتها الاستخباراتية والدبلوماسية والإعلامية التي تملأ العالم الافتراضي المجنون، ولذا كان لزاماً عليّ وأنا المؤمن إيماناً كاملاً بأنّ القرآن الكريم كلام الله وإليه المرجع وعليه المعتمد في قراءة وتحليل معطيات الواقع واستشراف مستقبلياته، أقول كان لزاماً عليّ العودة إلى النص الإلهي الذي به يحق لي أن أطلق هذا الحكم المستلهم من قول الرب سبحانه وتعالى، والمرتكز على مقدمات ثمان هي بإيجاز:
* أنّ الله هو خالق هذا الكون، ومالكه، وما زال تحت قيوميته ومشيئته.
* أنّ الله اختار هذا المخلوق (الإنسان) واستخلفه في الأرض بعد أن سخّرها له، وجعلها صالحة للبقاء البشري والحياة الإنسانية؛ فآدم وذريته من بعده خلفاء لله وليس عن الله، وفرق بين «عن» و»اللام» كبير، إذ الأولى تستلزم غياب المستخلف أو عجزه وضعفه، أما الثانية فهي توجب بقاء المستخلِف ومراقبته للمستخْلَف، ومن ثم محاسبته له .
* أنه رسم له منهج الاستخلاف، كما حدد له كيفية العبادة الواجب صرفها للرب سبحانه وتعالى، إلا أنه - عز وجل- ترك لهذا المخلوق المكرم والمختار لحمل الأمانة وعمارة الأرض مساحة من الحرية في التحرك، في ظل معالم الدين ومحدداته التي جاء بها رسل الله وأنبياؤه عليهم الصلاة والسلام .
* أنّ الله جعل للاستخلاف سنناً لا تتبدل أو تحيد، ولا تجامل أحداً من خلقه.
* أنّ الله أمرنا أن نقرأ هذه السنن حتى لا تتكرر النهايات {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} ( الروم 9).
* أنّ الله هو من يكتب النهايات للأمم والدول والحضارات والمجتمعات كما هو الموت في حق الأفراد، وبالطريقة التي يشاء الرب ويختار {فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُم مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُم مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} (العنكبوت 40).
* أنّ الله أخبرنا أنّ الجرم الذي عوقب عليه قوم لوط هو إباحة زواج المثليين {وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّن الْعَالَمِينَ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِّن دُونِ النِّسَاء بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ} (الأعراف 80 - 81 )، وفي سورة الشعراء جاء حكاية عمّا كان يقوله لوط عليه السلام لقومه: {أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ، وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ} والنتيجة: {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ، إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ} والمطر كما في سورة هود كان حجارة {فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ، مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ}. (هود 82، 83). بل إنّ آيات الذاريات حددت مادة هذه الحجارة {قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ، قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ، لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ، مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ، فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}. (الذاريات 31- 35).
* أنّ هناك فرقاً بين ارتكاب الذنب بصورة فردية وبدافع شهوة عارضة، وبين التشريع له وإعلانه والاحتفاء به وتقديمه بوصفه منجزاً حضارياً لهذه الأمة وتلك، والله عز وجل يكتب النهايات حين يتحول الفعل من حالته الفردية ليصبح صبغة مجتمعية يجاهر بها (كل أمتي معافى إلاّ المجاهرون).
هذه المقدمات الثماني يتبعها «إذًا» وهو بمثابة النطق بالحكم، وهذا ما سوف أعرضه في مقال الجمعة بإذن الله، دمتم بخير وتقبلوا صادق الود وعشركم مباركات والسلام.