أ. د.عثمان بن صالح العامر
من القلائل الذين يجيدون فن الصمت وحسن الاستماع، والتفكير العميق في ما تتلفظ به حين تُحدثه ولو حديثاً مكرراً وبعيداً عن اهتمامه الشخصي، من بين هؤلاء القلائل الذين أعرفهم شخصياً معالي الدكتور ناصر الرشيد، وكأنه يتمثّل في سلوكه هذا بقول ابن الرومي:
وتَراه يُصغي للحديث بسمْعِه
وبقلبِـه، ولعلَّـه أدرى به
ليس هذا فحسب، بل إنني لاحظت في شخصه المتميز والمميز الهدوء حين الحديث، ومحاولة تبسيط المعلومة التي يطرحها، وغياب النرجسية لديه، وعدم إشعاره لك بالأستاذية في ما يقول، وإظهار الاهتمام الكبير بكل ما تطرح من أفكار ورؤى، حتى وإن كان ما تطرحه معروفًا لديه من قبل، أو أنه ليس من أولوياته ولا هو ضمن منظومة اهتماماته الشخصية.
* منتصف الأسبوع الماضي كنت في معية معالي مدير جامعة حائل الأستاذ الدكتور خليل بن إبراهيم البراهيم، وعدد من الزملاء، لعرض نتائج أعمال الكراسي البحثية الثلاثة التي تبرع بها معالي الدكتور الرشيد وشرفت بحمل اسمه.. ومع أن الحديث كان حديثاً ذا شجون، أبحر في عالم البحث العلمي المتخصص، وعرج على العلاقة بين الجامعة والجامعات العالمية، وشرّق وغرّب، فإنني شعرت أن الدكتور الرشيد تحدث في وسط اللقاء عن اليتيم بحرقة لم أعرفها عنه من قبل، مع أنني شخصياً أعلم مدى حرصه واهتمامه بالطفولة عموماً والأيتام على وجه الخصوص منذ سنوات، ويكفي دليلاً على ما جزمت به من أنه يعدّ الأيتام - ومن في حكمهم - المتواجدين في مركزه بحائل (مثل أولاده)، ويتطلع لليوم الذي يرى من بينهم الطبيب والمهندس والمعلم والخبير، وما هذا المبنى الذي شيده على أحسن طراز، وأشرف عليه بنفسه، وصممه بشكل فريد، ووفر مستلزماته كاملة ليلبي احتياجات كل الفئات العمرية إلا حرص منه على وجود البيئة الحاضنة لهذه الفئة الغالية لديه، حتى يتسنى لها الجدية في الحياة، والتغلب على مشاكلها المتأزمة المعروفة، والمنافسة في مشوار العمر، والوصول بتوفيق الله ثم بجهدهم ودعم معلميهم والمشرفين على برامجهم النفسية والاجتماعية والتربوية لمنصة التتويج وقمم النجاح، وليس ذلك على الله بعزيز، ليس هذا فحسب، بل تحدث عن الألم الذي يعتصره حين يصله أن أحد هؤلاء الصغار تعرَّض لأذى أو اعتراه مرض أو أصابه مكروه - لا سمح الله - حتى إنني تصاغرت نفسي حين سمعت كم هي غالية عند هذا الرجل المشغول في أعماله وترحاله دمعة اليتيم القابع في أرض الشمال، وكم هو عصيّ عليه حزن هؤلاء المهمَّشين الذين لا ذنب لهم ولا جريرة.
* شرفٌ لنا - نحن المجتمع السعودي - أن يكون منا ومن بيننا من يولي هذه الفئات المحتاجة، سواء أكانوا من الأيتام أم المعاقين أو المسنين أو الفقراء والمساكين أو المهمَّشين والمعوزين، مثل هذا الاهتمام: «وهل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم» رواه البخارى، وفي مسند الإمام أحمد وعند الحاكم وقال صحيح على شرط مسلم ووافقه الذهبي وابن ماجه وحسنه الألباني: «إني أحرج حق الضعيفين: اليتيم والمرأة»، وفي حديث عند مسلم: «كافل اليتيم له أو لغيره أنا وهو كهاتين في الجنة»، قال الإمام ابن بطال: «حقٌّ على من سمع هذا الحديث أن يعمل به ليكون رفيق النبي - صلى الله عليه وسلم - في الجنة، ولا منزلة في الآخرة أفضل من ذلك».
* شكراً لكم أبا فهد على ما قدمت وتقدمون لهذه الفئة التي جعلها الله بيننا امتحانًا وبلاءً، وأسأل الله عز وجل أن يكون في موازين أعمالكم، شكراً لكل من دعم وبذل واجتهد وعمل وربّى وأدّب وصادق واهتم باليتيم الذي فقد الراعي، وأحس بالغربة وعايش العزلة، ومالَ إلى الوحدة والانزواء، ينشد عطف الأبوة الحانية، ويرنو إلى حضن الأم الرؤوم، ينتظر من يمسح رأسه ويخفف بؤسه، ينسيه مرارة المجهول وآلام الحرمان {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8) إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا (9) إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا (10) فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا (11)}، دمتم بخير وتقبلوا صادق الود والسلام.