كوثر الأربش
إذا مددت عنقك مخترقاً غمامة الهوية الضيقة، والايدلوجيا والقوالب أيضاً، فإنك قد ترى أبعد مما يراه المنضوون تحت سقوفهم الخفيضة. وستلتقي بآخرين من ذوي الأعناق الطويلة من مختلف الأطياف. ممن سيلقي على فضائك الخاص أقواساً ملونة، ويشرع في ذهنك نوافذ متعددة الأشكال، بأثر رجعي على طابع تفكيرك ونمط حياتك. وسيتيح لك دائماً رؤى وخيارات أبعد من تلك التي تراها من موضعك. كما لو أن رأسك أصبح بأكثر من عينين، ودماغ واحد!
لم أكن أدرك هذا الأفق الممتد في حياتي إلا بعد أن فقدت ابني، ضمن شهداء مسجد الإمام الحسين في حي العنود بالدمام. عندما سعى الأصدقاء لمواساتي، مقترحين - كلٌ بحسب موضعه - ترياقاً أو ضماداً. صديق يعول دائماً على التشافي بالقرآن وإهداء ثواب أعمال الخير لفقيدي. الصدقات والدعاء والتعلق بأمل اللقيا في الجنة بإذن الله.
صديق يركز على تحويل الإحساس بالفقد إلى ربح، من خلال اقتفاء أثر الفخر والبطولة وتلمس القيم الكبرى، وهي محاولة باختصار لتضميد جرحك النازف بقطنة مبلله بالعطور! صديق آخر نصحني باستثمار الحزن في صقل تجربتي الشخصية لاكتساب المزيد من القوة والأمل والتطلع للغد كذلك، من خلال تحويل الحزن إلى مصدر إلهام.
آخرون ساقوا لي النسيان كحل حاسم ونهائي! النسيان التام، والحياة تستمر!
أصدقاء استخدموا حيلة الإلهاء وصناعة الفرح، بديلاً ملوناً عن قتامة الأحزان وسوادها حسبما يرون. صديق أذكره جيداً يرى أن الإبداع هو الحل، تحويل المأساة إلى فن، لوحة فنية، قطعة شعرية، سيناريو.. الخ. أصدقاء كل منهم يهبك مصادر سعادته وإلهامه، أو ما يظنها كذلك، أو ما يفتقدها فعلاً .. ليضمد جراحك!
لكن جراحك المفتوحة على أقصى النزف قد لا تكون بمقاس الضماد، هل يمكن صرف الانتباه عن أوجاع جراحاتنا الطازجة؟ ربما يجيب هذا السؤال «شنغافة» أحد أبطال رواية شارع العطايف، لو كان حقيقياً، «شنغافة» الذي تعرض لقصاص الجلد كثيراً في حياته الجانحة، والذي كان يعض على شفته حد القضم، كحيلة لصرف الألم إلى جهة أخرى، عله يتناسى قسوة السياط النازلة على ظهره.
الأصدقاء المنوعون يفتحون في دماغك غرفاً. ويوسعون خبراتك لتكفي المزيد من التجارب التي لا تخصك شخصياً. يعصرون في كأسك قلوبهم وأفكارهم والكلام الذي لم يُكتب بأقلامهم مرة. ويحلمون أن تجرع الكأس وتُشفى.
الله .. ما أجمل الأصدقاء.