د. عبدالرحمن محمد السلطان
تحدثت الأسبوع الماضي عن تقرير وزارة الاقتصاد والتخطيط الذي اعترفت فيه لأول مرة بأنه لا مصداقية لمقولة عدم مواءمة مخرجات التعليم لاحتياجات القطاع الخاص وهي المقولة التي طالما رددها القطاع الخاص ومعه هذه الوزارة على مدى عقود. فاحتياجات هذا القطاع من العمالة هي في الغالب ذات متطلب متدن جدا من التأهيل والمهارة، يؤكده كون حوالي 80% من العمالة الأجنبية في هذا القطاع عمالة أمية أو تقرأ وتكتب فقط، من ثم فالمواءمة المطلوبة في ظل هذا الواقع الأليم هي تقييد التعليم والحد منه لا تطويره وتوسيعه.
جذور هذه المشكلة تعود إلى الخطاء الفادح الذي ارتكبناه في سبعينات القرن الماضي والمستمر حتى الآن بفتح باب الاستقدام على مصراعيه دون أي تقييد لنوعية العمالة التي يتم استقدامها، توفرت بموجبه عمالة أجنبية متدنية التأهيل والمهارة أجورها زهيدة جدا وبأعداد هائلة، ما دفع القطاع الخاص إلى اعتماد نموذج أعمال يقوم على توظيف مثل هذه العمالة بدلاً من اعتماد نموذج أعمال يعتمد على العمالة المؤهلة عالية المهارة مرتفعة الأجر، أصبحت معه معظم فرص العمل المتاحة في القطاع الخاص، بل ومعظم التي ستخلق مستقبلا، أعمالاً لا تتطلب أي مهارة أو تأهيل تناسب فقط العمالة الرخيصة المستقدمة من أشد بلدان العالم فقرا.
في ظل هذا الواقع فإنه لا جدوى ولا فائدة من إصلاح نظام التعليم بجعل مخرجاته أكثر مناسبة للاحتياجات المفترضة للتنمية طالما أن هذه الاحتياجات ليست موجودة أصلا في ظل كون معظم ما يخلق من فرص عمل تتطلب عمالة غير مؤهلة ولا ماهرة، ولكي يكون مثل هذا الجهد مجدياً فعلا في تحقيق اعتماد أكبر على العمالة المواطنة في سوق العمل فإنه يلزم أولا دفع القطاع الخاص إلى التحول من قطاع يوظف في الغالب عمالة رديئة متدنية الأجر إلى قطاع يوظف في الغالب عمالة عالية التأهيل والمهارة والأجر.
النجاح المذهل لسنغافورة في تفادي مثل هذه الإشكالية عندما واجهت عجزاً مماثلاً في القوى العاملة في سبعينات القرن الماضي، حيث نجحت في حماية اقتصادها من أن يتحول إلى اقتصاد يخلق في الغالب فرص عمل رديئة تناسب العمالة المستقدمة من البلدان الفقيرة المجاورة، بحيث نجد الآن أن النسبة الأكبر من فرص العمل المتاحة في الاقتصاد السنغافوري تصنف كفرص عمل ماهرة أو عالية المهارة، رغم فتحها الباب لاستقدام العمالة الأجنبية، يجعل من الضروري جدا دراسة هذه التجربة واستخلاص أهم دروسها لوضع برنامج لإصلاح قطاعنا الخاص، فإصلاحه أولى وأكثر إلحاحاً من إصلاح نظامنا التعليمي.
ففي حال إصلاح نظامنا التعليمي دون بذل جهد حقيقي لإصلاح قطاعنا الخاص فإننا سنفاجأ بأن لا جدوى ولا فائدة تحققت من هذا الاصلاح وسيستمر القطاع الخاص في اعتماده شبه الكامل على العمالة الأجنبية متدنية التأهيل والمهارة، من ثم فأولويتنا يجب أن تكون في إجراء إصلاح شامل وجذري يجبر هذا القطاع على إنهاء إدمانه للعمالة الرديئة الرخيصة المستقدمة من أفقر بلدان العالم ما يجعله أقدر على توفير فرص عمل ملائمة للعمالة المواطنة.
في المقال التالي كيف نجحت سنغافورة في تحقيق كل ذلك وماهي أهم الدروس المستفادة من تجربتها.