د. جاسر الحربش
أشعر بالانقباض والامتعاض عندما أقرأ أو أسمع رأيا ً يقبل بالتعاون مع العدو الصهيوني ضد الحكومة الإيرانية، مبررا ً ذلك بعدم القدرة العربية الحالية على صد العدوان الإيراني. العدو الصهيوني، بفكره ونشأته وتكوينه وأدبياته عدو أزلي لا يمكن التصالح معه، زرع نفسه بالغزو والقهر والتحالف مع أعداء تاريخيين وبادعاء ملكية الأرض استنادا ً على كذبة توراتية ملفقة، ولا يمكن إيجاد أي مبرر للقبول به، ناهيك عن التطبيع أو التعامل معه ضد عدو آخر تكون عداوته على أكبر الاحتمالات مؤقتة ً تنتهي بنهاية الحكومة الإيرانية الحالية.
العداء مع إيران يختلف عن العداء مع النظام الصهيوني، فهو عداء مع الحكومة الإيرانية الحالية وليس مع الشعب والدولة الإيرانية. الحكومة الإيرانية حالة طارئة، أما الشعب والدولة في إيران فهما ثوابت جغرافية أزلية، علاوة على الشراكة في الإسلام رغم الاختلاف المذهبي في الخمسمائة سنة الأخيرة فقط.
أعتبر مجرد التفكير في التعاون مع النظام الصهيوني ضد أي عدو محتمل من علامات الخذلان الشرعية والوطنية.
محاولات جس النبض بين بعض الحكومات العربية والعدو الإسرائيلي، للاستقواء المتبادل ضد تغوُّل الحكومة الإيرانية، صارت تناقش في الإعلام الإسرائيلي والغربي كواقعية سياسية وأمنية. في الحقيقة بدأت روائح التطبيع العفنة مع العدو الصهيوني تفوح في الأجواء العربية منذ زمن بعيد، وقبل أن يصل العدوان الإيراني إلى ما وصل إليه من التهديد المباشر والمزعج لكامل الجغرافيا العربية المشرقية. بعض الدول العربية لها سفارات وقنصليات في تل أبيب وتتبادل الرحلات السياحية والثقافية مع العدو الأول والأشرس للمكوّن العربي بكل تفاصيله الدينية والجغرافية والثقافية. البعض الآخر من الدول العربية سمح بفتح مكاتب استشارية وتنسيقية وتجارية للإسرائيليين على أراضيه.
في لقاءات العولمة التي تجمع بالصدفة ممثلين من عشرات الدول تحدث لقاءات جانبية خلف الكواليس بين عرب وإسرائيليين، ويتم التسريب المقصود عنها في الإعلام الإسرائيلي والأمريكي. مع الشعور المتزايد بالعدوانية الإيرانية أصبح المواطن العربي يتعرض لإيحاءات من هنا وهناك باحتمال حدوث تقارب بين العرب والصهاينة، بما يعني احتمال التنسيق الأمني. في إحدى مقابلاته مع فضائية خليجية قال مفكر سياسي عربي إنه قابل أثناء إحدى رحلاته الجوية شخصا ً قدمه له أحد معارفه الأجانب على أنه ابن مسؤول إسرائيلي له علاقات تجارية مع دول عربية.
الملاحظ أنه وسط هذه الاحتمالات المتشابكة من التبادل التجاري ومكاتب التمثيل واللقاءات والمعولمة وتسريبات الإعلام عن احتمالات التعاون الأمني بين بعض الحكومات العربية والنظام الصهيوني، تبقى الجماهير العربية مغيبة عن هذه المناهج التطبيعية الخفية، والسؤال هو لماذا ؟. الجواب بسيط، لأنّ الجماهير العربية ترفض ذلك بالمطلق ولأنّ أي حكومة عربية تفكر في تطبيع العلاقة مع الحكومة الصهيونية تمارس الانتحار الشرعي والوطني.
فشل الحكومات العربية المستمر في ردع التوحش الإسرائيلي العنصري، بالإضافة إلى ترددها عن مواجهة التوحش الإيراني العنصري الآخر لا يسمحان لأي حكومة عربية أن تجر شعبها معها إلى ارتكاب المحرم. الشعوب العربية والإسلامية استدخلت في ذاكرتها إلى الأبد كل الفواحش التي ارتكبتها الحكومة الإيرانية ضد العرب، في إيران نفسها وفي العراق وسوريا ولبنان واليمن والبحرين، لكنها أيضا ً طبعت قبل ذلك في ذاكرتها الأرقام الهائلة من الفواحش التي ارتكبها الصهاينة. المواطن العربي رسخ في ذاكرته ولن ينسى أبدا ً المناظر المتكررة للفلسطينيات المسحوبات من شعورهن إلى داخل عربات الشرطة الإسرائيلية مجبرات على ترك أطفالهن على قارعة الطريق يعولون ويستغيثون ويركضون زائغي الأعين خلف الشرطة التي اختطفت أمهاتهم. المواطن العربي رسخ في ذاكرته المناظر المتكررة للأطفال الفلسطينيين وهم يضربون بأعقاب البنادق ويكبلون ثم يلقى القبض عليهم لأنهم رموا حجرا ً أو أطلقوا هتافات تندد بالاحتلال. المواطن العربي لن ينسى الطفل باسل الجيطان الذي تناثر دماغه بطلقة جندي إسرائيلي على عتبة المسجد بعد صلاة الجمعة ولا انكماش الطفل محمد الدرة لافظا ً أنفاسه برصاصة إسرائيلية، ولا أجساد الصغار التي مزقتها الطوافات الإسرائيلية على شواطئ البحر، ولا آلاف الأطفال الذين أحرقهم الجيش الإسرائيلي بالفوسفور الأبيض في جنين والخليل وغزة وقانا والجليل والنقب.
عندما تحس الحكومات العربية بعجزها عن تقديم مشروع يحمي أمنها، لا يجوز لها أن تقامر بثوابت شعوبها فترتكب المحرمات الشرعية والوطنية والتاريخية، وتفصل المستقبل على متطلباتها الأمنية بمعزل عن الجماهير.
كلاهما، المشروع التوسعي الإيراني والمشروع التوسعي الإسرائيلي تهديد حقيقي وجائر ومتوحش ومتعطش للدماء والأرض العربية. الرجوع إلى الشعوب عند الشدائد والاستئناس بذوي الرأي والشجاعة والوطنية هو المشروع الصحيح للمواجهة، وليس الاعتقاد بإمكانية الاستعانة بالثعبان الأرقط ضد الثعبان الأسود.
أؤكد مرة أخرى، أي حكومة عربية تفكر بالتعاون مع الصهاينة ضد الملالي أو مع الملالي ضد الصهاينة تمارس الانتحار بالرفض الجماهيري الشامل.
في الختام أحمد الله وأشكره على الموقف المبدئي والواضح للمملكة العربية السعودية، التي ترفض عن قناعة شرعية ووطنية الدخول في أي مساومات مشبوهة مع الأعداء من أي نوع.