محمد أبا الخيل
استرعى اهتمامي عندما كنت أجري مقابلات شخصية لترشيح موظف متميز، لشغل وظيفة لدى أحد عملاء مكتبي من الشركات الكبيرة، شابٌ في منتصف الثلاثين، حاضر الذهن، سريع البديهة، مكتنز الثقة بالنفس، متمكن من كثير من متطلبات الوظيفة؛ لذا لم يكن صعباً علي أن أضعه في المرتبة الأولى بين المرشحين لوظيفة مدير قطاع في تلك الشركة. ولم يكن اختياره للوظيفة صعباً على ذوي القرار فيها؛ فتم ذلك، وسارت به الأيام والسنون، ومنذ أيام اتصل بي، وكان لا يتردد في الاتصال للتهنئة بالمواسم والأعياد، ولكن هذه المرة لم يكن اتصاله للتهنئة بحلول شهر رمضان فقط بل كان لأمر آخر؛ لذا رغب أن يزورني، فآثرت أن يكون ذلك في البيت مساء؛ حتى يتسنى لي ضيافته بما يؤكل ويُشرب.
قال لي: «عندما باشرت العمل في الشركة كان رئيسي المباشر، الذي كان نائب المدير العام التنفيذي، متحمساً لتعريفي وتقديمي لكل التنفيذيين في الشركة، وكان يثني على سيرتي المهنية السابقة، ويستشرف مستقبلاً مشرقاً لي. وفي لقاء المدير العام بالغ في المدح وحسن الاختيار والتوقعات، وكان - فيما يبدو - صادقاً في تلك المشاعر؛ إذ استمر في دعمه لي، والحرص على أن لا يكون هناك قرار ذو أهمية إلا ويشركني في الرأي، ويحرص على أن أكون حاضراً في معظم الاجتماعات التي تناقَش فيها الاستراتيجية، أو تلك التي تكون مع العملاء المهمين. ومرت الأيام والشهور ورئيسي لم يفقد الحماس تجاهي، بل إنه كان يشركني في الرأي في أعمال الآخرين، وكان يقول بين الحين والآخر إن علي الاستعداد لشغل مكانه؛ فهو يعتقد بأهمية إعداد بديل له كواجب من واجبات العمل؛ فهو لا يريد أن يكون أسير الوظيفة عندما تلوح له فرصة أفضل.
في ذات يوم، كان رئيسي في رحلة عمل خارجية، وتلقيت مكالمة بالجوال من المدير العام نحو الساعة الحادية عشرة صباحاً، وطلب مني إبلاغ السكرتير بأني في اجتماع خارج المكتب، ثم مقابلته في مواقف أحد المولات المشهورة. امتثلت لطلب المدير العام الذي كان ينتظرني في المواقف، وطلب مني الركوب معه في سيارته، ثم انطلق بنا في طريق الثمامة، وكان الحديث يدور حول مشاكل المرور وزحمة السيارات واتساع الرياض بصورة أصبحت تمثل تحدياً إدارياً، وشؤون أخرى. وصلنا لأحد الاستراحات المهيأة بصورة جيدة، وعندما دخلنا وجدنا طاولة للغداء أُعدت لشخصين فقط، وبوفيهاً متعدد الأكلات، يكفي لأكثر من (50) شخصاً. قال لي: سأحدثك في أمر مهم، وأرجو أن يترك كل منا جواله خارج هذه الغرفة. فأعطينا أحد الخدم الجوالين، وذهب بهما، وخلت الغرفة من سوانا. فقال وهو متجهم الوجه: إن فلاناً - يقصد رئيسي - قدم تقريراً سرياً لي، ذكر فيه أنه يقترح إنهاء خدمتك في الشركة، وقد ذكر أسباباً عدة، ولكن أهمها هو شعوره بأنك تتقاضى عمولات سرية من منافسين لمعرفة بعض أسرار الشركة، وأنه منذ 3 سنوات فعل الشيء نفسه مع موظف سابق؛ ما أثار شكوكي؛ فحرصت على تقصي ذلك؛ فتبين لي أنه هو الذي يتقاضى تلك العمولات، ويسوق الاتهام لغيره لتشتيت الانتباه عنه، وهو الآن يفعل ذلك معك. كانت صدمة غير متوقعة لي، فقلت بصورة فطرية مدافعاً عنه: لا أعتقد ذلك؛ فهو رجل صادق وداعم في العمل، وليس هناك مبرر لكل هذا الكلام. فازداد وجهه تجهماً، وبات الغضب ظاهراً عليه، فبادرني: تتصور أني أكذب؟!! قلت: لا، ولكني مصدوم بهذا الكلام. فقال: لا عليك، أعلم أنك مصدوم؛ لذا اخترت أن يكون هذا الحديث خارج المكتب، وأنا الآن بصدد حمايتك منه، وعليك أن تعلم أنه مقرب لبعض أعضاء مجلس الإدارة؛ إذ تربطه بهم قرابة؛ لذا لا أستكثر أنه تحدث معهم حول اتهامك، وربما يثار هذا في جلسة المجلس القادمة؛ لذا علينا استباق الأحداث، وترتيب ما يجهض خططه، وكشفه أمام المجلس. قلت وأنا مضطرب المشاعر مشتت الأفكار؛ فقد دار في رأسي ألف فكرة حول السجن وأبنائي وسمعتي ومستقبلي: كيف نرتب ذلك؟ قال: بعد الغداء نجلس ونشرب الشاي ونخطط.
وبعد الغداء جلسنا، وكنت ما زلت مضطرب الأفكار، لا أدري ما أقول. فأتى بظرف كبير، وأظهر ما بداخله من أوراق كثيرة، رتب بعضها مع بعض، وأدخل الباقي في الظرف، ثم ناولني بعض تلك الأوراق، وكانت مكتوبة بخط اليد، وعلى ورق مذكرة داخلية لأحد منافسي شركتنا، وفيها استفسارات عن بعض تكاليف شركتنا ومصادر موادنا وأرصدة حساباتنا والقروض التي علينا للبنوك، ثم قال لي: حصلت على هذه الأوراق من عامل تنظيف سيارة فلان (يقصد رئيسي) ولأنه الآن مسافر فلدينا فرصة أن نضع هذه الأوراق في مكتبه، وعند حضوره نواجهه بها، فلا يجد بدًّا من الاعتراف، فتُعرف الحقيقة للجميع. ونحن هنا لا نقوم بسوء، فقط نضعه أمام حقيقته. وأنا في الواقع لا أستطيع حمايتك من قرارات المجلس التي أنا متأكد أنها ستكون في صالحه إلا إذا ساعدتني في هذا الأمر. هذا هو وسيلة نجاتك؛ إذ سيعرف مجلس الإدارة حقيقة الرجل بصورة لا تقبل الجدال. اتفقنا على ذلك مع نقاش بعض التفاصيل حول كيفية وضع الأوراق في المكتب وأين، وكيفية حضورنا لكشف ذلك، فاتفقنا أن أضع معاملة هو يعلم أنها عندي في أحد أدراج المكتب وبينها تلك الأوراق، ثم يأتي المدير العام لمكتبه يطلب المعاملة عند حضوره فيستدعيني، فأقول إنها لديه، فيستغرب، ثم نبدأ بعملية بحث في الأدراج، فنعثر على تلك الأوراق في المعاملة، وسيحرص المدير العام على أن يكون معه عند الحضور لطلب المعاملة أحد نواب المدير العام الآخرين. وهكذا جرت الخطة واكتشفنا الأوراق وسط ذهول رئيسي، وبسرعة تصرف المدير العام باستدعاء المدقق الداخلي وسكرتير مجلس الإدارة، وأثبتت الحالة في محضر رسمي، ورئيسي ينظر لي بذهول واستفسار مكبوت أكاد أسمعه يقول (لماذا فعلت بي هذا وأنا من وثق بك؟). لم أستطع البقاء في المكتب؛ إذ سرى في الشركة الخبر، وتعددت الروايات حول الموضوع بين الموظفين، وخرجت للبيت مهموماً مغموماً.
في المساء اتصل بي رئيسي، ورغب في أن يحضر لمنزلي ويأخذني لمقهى مجاور للحديث حول الموضوع، ترددت في البداية، وتحججت بأن ذلك غير مناسب لكون الموضوع ساخناً، وربما يساء فهم اجتماعنا، فأصر على ذلك، وحضر، فدعوته لداخل المنزل، وبررت بأن اجتماعنا في مكان عام غير مناسب. فبدأ بالكلام، وقال: كان علي أن أبلغك بأمر مهم قبل شهر. فقد اجتمع بعض أعضاء مجلس الإدارة سراً في بيت أحد الأعضاء، وقرروا تنحية المدير العام لأسباب عدة، منها كبر العمر، وعدم القدرة على التجديد، والثالثة لوجود تصادم في المصالح؛ إذ ثبت أن له شراكات سرية مع بعض المنافسين. ولأنه على علاقة متميزة مع رئيس مجلس الإدارة فلم يكن بالإمكان عرض الأمر في المجلس دون إعداد مسبق وإقناع لرئيس المجلس وتمهيد للمدير العام، ويرتَّب له مكافأة مجزية مقابل أن يترك الوظيفة طواعية. ويبدو أن الأمر قد بلغ المدير العام بأن البديل له هو أنا، وقد تحدث معي بعض الأعضاء، وطلب مني وضع هيكل تنظيم جديد، يتم نقاشه مع المجلس، فوضعتك في مكاني نائباً تنفيذياً للمدير العام، ولكن يبدو أن المدير العام استغل غيابي واستغل سذاجتك، فرتب ما كان يعتقد أنه ضربة لخطط أعضاء المجلس، وأنت الآن مخير بين أمرين: أن تترك الشركة طواعية باستقالة غير مسببة، أو تخضع للتحقيق الذي سيبدأ خلال أيام؛ إذ تم اليوم في آخر الدوام اجتماع المجلس، وتقرير إعفاء المدير العام وتعييني مديراً عاماً للشركة. ثم دفع أمامي صورة للقرار، وقام واقفاً وهو يقول (أكرمك الله، كنت أطمح إلى أن تكون مساعداً مميزاً لي، ولكن قدر الله وما شاء فعل)، ثم خرج وأنا مذهول مقهور مستاء من حماقتي وضعف حيلتي. فماذا تقترح علي أن أفعل؟».
فقلت له: «لكل جواد كبوة، ولكن بعض الكبوات تكسر الرقبة، وهذه واحدة منها، أعانك الله». لم أعرف ماذا أقول له سوى أن أقول لكل مدير: «عليكم بالشفافية؛ فهي نور العمل، أما الغموض فهو مثل المشي في الظلام، تسير بحذر ومع ذلك قد تقع في أعمق الحفر».