محمد أبا الخيل
الإرهاب يضرب كل يوم بقسوة في مكان ما من العالم، فكل عدوان على الآمنين هو إرهاب، أكان طمعاً في مالهم أو عرضهم أو هو كره لهم وتسلط عليهم. ولكن أسوأ أنواع الإرهاب هو ذلك الذي يكون باسم الدين، ويعتقد صاحبه أنه يتقرب إلى الله بفعله، فيقتل الناس بحجة إعلاء كلمة الله، ويقتل الناس استجابة لواجب فرضه الله، ويقتل الناس طلباً لمرضاة الله, وهو والله عن كل ذلك بعيد بعد الأرض عن أبعد كوكب في الكون. فمقترف الإرهاب باسم الدين إنسان اختلطت في ذهنه المفاهيم، مفاهيم الإبادة والقتل والحقد وضراوة النفس البهيمة، ومفاهيم الجهاد والكفاح من أجل سيادة الحق وإزهاق الباطل وعمارة الأرض برسالة الله لأنبيائه {أنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيْعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيْعًا}.
الإرهابي الذي يفجر نفسه بين جموع المصلين يعلم أنهم يصلون لله ويعلم أنهم يشهدون بوحدانية الله ويعلم أنهم يشهدون برسالة محمد صلى الله عليه وسلم ويعلم أن ذلك هو عصمتهم بحق الإسلام وعصمتهم بحق المواطنة والحق بالعيش بسلام، وما سوى ذلك فهو خلاف واختلاف بدأ منذ صدر الإسلام. ولكن الإرهابي حين يفجر نفسه في جموع المصلين يكون تحت فكر آخر لا يقيم وزناً لتلك المعرفة المستقرة في أذهان عموم المسلمين، هو تحت تأثير أدلجة عقل أقوى من عقله وتبرير لفعله يسقط كل قيمة للإنسانية أو حق للآخر، فهو يتجرد من تلك المعرفة البديهية وتستولي على عقله فكرة واحدة فقط وهي (أنه لن يستحق الجنة وما فيها من وعود إلا بأن يبيد نفسه بتفجير يقتل أكبر عدد ممن أوهم أنهم أعداء له). فالإرهابي إنسان فُرغ عقله من كل مضمون جميل في الحياة وأدلج بفكرة واحدة هي «أن يكون قنبلة تقتل الآخر خيراً له من أن يكون إنساناً حياً يستمتع بالحياة».
ليس هناك عقل يبرر القتل لمجرد أن القاتل لا يستسيغ حياة الآخر، وليس هناك عقل يقبل أن القتل حق للقاتل لأنه اختلف مع الآخر في دينه أو مذهبه، وليس هناك عقل يقبل أن يسمى القتل جهاداً لمجرد أن معتوهاً متطرف الفكر مريض النفس قليل المعرفة ملتهب الحقد نظر في بعض النصوص واستشعر أن الله يريد سفك الدماء لتعلو كلمته!.
هذا المعتوه لم يستشعر أن كلمة الله تعلو كل يوم وفي صور شتى، وما عمارة الأرض ورقي الإنسان التقني والحضاري إلا مظهر من مظاهر علو كلمة الله وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ . وما تعامل الناس بينهم بسيادة الحق والقانون والتعايش السلمي إلا إعلا لكلمة الله يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ، وما إشاعة الأمن والسلام إلا إعلاء لكلمة الله وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ، فكلمة الله هي مراده ونواميسه التي جعلها تحكم حياة البشر والحياة برمتها. وما اختلاف الناس بأشكالهم ولغاتهم ومفاهيمهم وأديانهم إلا إرادة لله وكلمة منه {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ}، ولكن الله يعلم أن هذا التنوع هو الدافع لتطور البشر وبحثهم المستمر على حقيقة تجمعهم وتلك كلمة الله.
كرم الله أمة الإسلام بالقرآن وحفظه من الخلل والزلل وجعله حمال أوجه حتى يتدبره المسلمون ويجدوا فيه نبراسهم في كل زمان ومكان، وفي صدر النبوة كرم الله أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بتوجيهاته لهم وتمثل سيرته ومعاشه، وبعد أن نبت الخلاف بين بعض الصحابة ومن تبعهم في أمور تفصيلية نتيجة اختلاف مفاهيمهم وقدراتهم وقربهم من منبع الرسالة، بليت الأمة بكمية هائلة من التراث المتناقض حول ذلك الخلاف، وأصبح ذلك التراث هو ما يحكم علاقات طوائف ومذاهب المسلمين فيما بينهم فساد تكفير بعضهم لبعض، وفي أفضل الحالات من الوفاق لم تخل العلاقة من التفسيق والإقصاء. هذا التراث هو اليوم آلة المأدلجين المتطرفين في تأجيج العداوة بين المسلمين وهو عدتهم في تأزيم أفكار الشباب المغرر بهم ودفعهم إلى أتون النار والتفجير والدمار.
نحن اليوم أمام حاجة ماسة لسلب المؤدلجين عدتهم وتجريدهم من آلتهم كأول علاج للقضاء على الإرهاب في بلادنا، وذلك لا يكون إلا بتنشيط حركة علمية شاملة تجرد التراث الإسلامي مما علق به من شوائب دهور الانحطاط الفكري التي عصفت بتاريخ الإسلام، مع تنشيط لحركة الحوارات الإسلامية العلمية البينية بين المذاهب والملل لتقريب وجهات النظر حول أصلية الاختلاف ومشروعية التنوع في فهم النصوص الثابتة.