عبدالعزيز السماري
لا يزال الموقف السلبي من الأبحاث العلمية والأشياء المستجدة يشغل العقل المسلم، وخصوصاً في منتجات العلم والعقل التجريبي المتسارعة. وكان البدء في القرن الرابع الهجري عندما حرّم بعض علماء الفقه الترجمة من أجل وقف تدفق العلوم الإنسانية؛ وذلك خوفاً من تسللها إلى عقل المسلم؛ وبالتالي خروجه من الملة حسب ما يعتقدون، وكانت النتيجة هروب العلم الإنساني إلى الأندلس، وقد عاش عصراً ذهبياً قبل أن يختفي تحت رماد الكتب المحروقة، وبعدها سقطت الأمة، ورجعنا إلى ثقافة الرسائل الموجزة، التي تحمل أحكاماً قطعية في كل شيء، ولا تسمح للعقل بأن يحلق في التفكير، والوصول إلى قناعات مبنية على التجارب الإنسانية والعلمية.
عندما طرحت في مقال سابق أهمية الوعي بالأضرار الصحية لتناول منتجات حليب البقر في السعودية، وارتباطها بأمراض العصر كما أثبتتها الدراسات العلمية الموثقة، وأن الزيادة المطردة في الإصابة بمرض السكر - على سبيل المثال - في البلاد ربما لها علاقة بالتناول المستمر لهذه المنتجات، جاء الاعتراض على هذه النتائج من الرؤية الدينية بأن شرب اللبن من السنة المباركة، ولا يمكن أن يشرب رسول الله عليه أفضل الصلوات والتسليم شيئاً فيه ضرر على المسلمين. وعادة ما يبرز مثل هذا الخطاب عند طرح أي نتيجة علمية تتعارض مع فَهم ديني محدود، وعندها تبدأ رحلة الممانعة التي طالما كانت السبب الرئيسي خلف التخلف العلمي الذي نعيش فيه منذ قرون.
من العوامل التي تؤدي إلى هذه النتيجة أن بعض المرجعيات الدينية تنظر بدونية إلى العقل الإنساني المنتج؛ لأن الحقائق العلمية تأتي نتيجة لارتكاب عدد لا محدود من الأخطاء، وأن العلم الرباني مطلق في الصحة، ولا حاجة للعقل الديني أن يصدق علماً مصدره الخطأ؛ ولذلك تم بناء عازل حول عقول عوام المسلمين، يحميهم من الغزو الفكري أو العلمي، بالرغم من أن الواقع يقول إنهم رضخوا للأمر الواقع عندما قبلوا أن يرتادوا المستشفيات، ويتعالجوا من الأمراض، وأن يتخلوا عن الوسائل البدائية التي كانوا يعتقدون أن مصدرها مقدس، وفيها الشفاء من كل داء.
هنا لا بد من تساؤل عن فحوى الرسالة الإلهية، وهل جاء الوحي برسالة التوحيد ونبذ الشرك والعبادات وتحقيق أركان الدين فقط، أم أنه دين جاء بالمطلق في كل نواحي الحياة؟ وهل كان المسلمون الأوائل يعلمون بالجزيئيات والأحماض الأمينية والنووية وعلم الأمراض والجينات والمضادات الحيوية وعلم النبات والحيوان والفضاء والتقنية، أم أن مقولة الرسول الأمين الأشهر «أنتم أعلم بشؤون دنياكم» تختزل كل ذلك في أن الإنسان مأمور بالسعي في كشف أسرار الطبيعة، وأن الدين لم يأتِ بالحقائق العلمية المطلقة، ولكن جاء بالدين الحنيف، ومن أهداف رسالته استكشاف ما هو مجهول من هذا الكون وظواهره على أساس من الثقة بقدرة الإنسان وبالعلم في مواجهة الطبيعة، وأن بعض ممارسات الأوائل في أمور الدنيا كالصحة العامة والزراعة وعلوم الحيوان وعلوم الإدارة قد تكون غير صحيحة!
من أهم تحديات العلم أمام الفهم الديني الآحاد أن رجل الدين في هذا العصر يحمل في رأسه كمًّا هائلاً من القطعيات المختزلة في أحكام «حرام» و»لا يجوز»، وقد خرجت مجلدات في ثقافتنا الماضية تقوم على الممانعة ضد أي جديد من خلال الأحكام القطعية، وقد كانت تلك القطعيات الشغل الشاغل لكثير من المفكرين المعاصرين من أجل تفكيك تلك المقولات، ثم دحضها أمام المجتمع، ولا يزال ذلك العقل يقاوم التغيير، ويستغل القلاقل والفتن من أجل المطالبة بالعودة إلى الخلف أميالاً، والاستسلام لذلك العقل المحدود الفَهم، ثم العيش في الكهف مرة أخرى.
لعل التساؤل الأكثر حيرة: لماذا يرفض منهج العقل المسلم المعاصر آلية التفكير حسب المنهج العلمي التجريبي؟ ولماذا يغيب تدريس تاريخ المنهج العلمي الحديث في المدارس؟ وربما يفسر ذلك رفض المجتمع من خلال بعض الفتاوى الدينية منتجات العقل العلمي التجريبي إن تعارضت مع نص ديني آحاد، قد لا يصل إلى درجة القطعية مثلما حدث في قضية شرب بول الإبل، وغيرها من أمثلة التعارض بين العلم والفهم الديني المحدود، الذي يعود إلى أسباب بيئية مغلقة، كانت خلف غياب فلسفة العلم الحديث عن العقول، وما زالت مصدراً للمواقف الحادة والمتفجرة في حياتنا المعاصرة.
لن أحتاج إلى سرد الأدلة الكثيرة على أن الإسلام جاء ليخرج المسلمين من الأمية إلى المعرفة، وسأكتفي بما أمر به رسول الله عندما جعل أسرى غزوة بدر يفتدون أنفسهم بتعليم عشرة من المسلمين القراءة والكتابة، ولكن سأعيد أن الفهم الديني المشتبع بالبيئة المنغلقة أوصلنا إلى التخلف والفتن والقلائل، ولا بد من إعادة الفهم الحضاري للدين، الذي لا يمكن أن يقف ضد التطور، ويقبل أن الخطأ فطرة إنسانية، يصل الإنسان من خلال تكراره إلى اليقين العلمي، كما حدث في مختلف مراحل الثورة العلمية في تاريخ الإنسانية منذ حضارة اليونان، مروراً بحضارة المسلمين وانتهاءً بالحضارة الغربية. والله المستعان.