حمّاد السالمي
شهدت أعوام التسعينيات الميلادية الأولى من القرن الماضي، البداية الحقيقية لظهور المواقع الاجتماعية، تلك التي يطلق عليها (شبكات التواصل الاجتماعي على الإنترنت). فقد صمّم (راندي كونرادز) موقعاً اجتماعياً للتواصل مع أصدقائه وزملائه في الدراسة في بداية العام (1995م)، وأطلق عليه اسم: (Classmates.com)،
وبهذا الحدث المعرفي الثورة حقيقة، سُجل أول موقع تواصل إلكتروني افتراضي بين سائر الناس.
وجيلنا عاش بكل اندهاش فيما بعد؛ كيف تتالى وبسرعة فائقة؛ ظهور قنوات خدمية مختلفة مثل: (فيس بوك، ماي سبيس، هاي فايف، لينكد إن، تويتر، يوتيوب، برايت كايت، هالول، اكس بوكس، ديليشيوس، فريندستر، كاوتش سيرفينج، تسو، بادو، سناب، ثم واتس أب)، وخلافها حسب الغرض منها.. وليالي الشبكة العنكبوتية حبلى بالمزيد في قادم الزمان.
هذه دون شك؛ ثورة معلوماتية هائلة وغير مسبوقة. وهي اختراع بشري له إيجابياته وله سلبياته، والعلة في وجود السلبيات أو كثرتها بحيث تطغى على الإيجابيات، هي في طريقة التعاطي البشري مع هذا المنتج الجديد في حياة الإنسان، فلا يمر يوم حتى نعرف المزيد من الإيجابيات، ونعيش الكثير من السلبيات. إن كلامنا على سلبيات هذه الشبكات لا يعني أنها غير مفيدة، فهنالك الكثير من الفوائد التي أحدثتها في مجتمعاتنا. الأمر يتعلق باستخدام هذه الشبكات وطريقة التفاعل معها.
إن العديد من المنظرين يرى اليوم أن أبرز إيجابيات هذه المواقع والقنوات؛ يكمن في التواصل مع العالم الخارجي، وتبادل الآراء والأفكار، ومعرفة ثقافات الشعوب، وتقريب المسافات، وكذلك في ممارسة العديد من الأنشطة التي تساعد على التقارب والتواصل مع الآخرين، وأنها تفتح أبواباً تمكن من إطلاق الإبداعات والمشاريع التي تحقق الأهداف، وتساعد المجتمع على النمو، إلى غير ذلك مما هو ملموس عند المتعاملين مع الشبكة، من خلال قنواتها التواصلية هذه. إن الكثير من البيئات العلمية الحاضنة لهذا الاختراع في الغرب، وخاصة تلك التي شهدت ولادة التجربة ذاتها؛ بدأت تبدي مخاوفها من تفاقم سلبيات قنوات التواصل هذه، فيتحدث البعض عن ظهور ضعف في العلاقات الإنسانية، وكثرة الإشاعات في ظل غياب المصادر الموثوقة، وتسطيح الأفكار، وضياع الوقت، ونشر الكثير من الأخبار السلبية، ثم تدعيم النرجسية، والابتزاز الجنسي والمالي.
لقد بدا واضحاً أن (قنوات الاتصال) هذه؛ يمكن أن تكون (قنوات انفصال) في الوقت ذاته، فنحن نعيش التجربة فيما بيننا كزملاء عمل وأصدقاء وسكان حي، وحتى بين أفراد الأسرة الواحدة في الدار الواحدة والغرفة الواحدة. دخلت ذات يوم على ثلاثة من أحفادي الصغار الذين هم بين الرابعة والثانية عشرة، فإذا كل منهم يعيش مع جهازه الكفي لوحده، رغم أنهم في غرفة واحدة، فلم يشعر بي أحد، مع أني سلمت ورفعت صوتي..! لم يدر بي أحد منهم. من المؤكد أن التواصل الذي يتم عبر الحياة الافتراضية من خلال قنوات التواصل هذه، ليس تواصلاً مكتمل الأركان، إنه يكاد يكون خالياً من المشاعر الإنسانية المتدفقة، لأنه تنعدم فيه لغة العيون وتقاسيم الوجه. التواصل الإلكتروني تواصل جاف جامد، وقد أسهم إلى حد كبير في التباعد بين الآباء والأمهات وبين أبنائهم وبناتهم، وهو بذلك يضر بالتربية الدينية والخلقية واللغوية والاجتماعية بشكل عام، وها نحن نمر بهذا الدور المرّ جداً، فكيف نتصرف يا ترى..؟!
الخطورة لا تتوقف عند حد (الانفصال الاجتماعي) لا (التواصل الاجتماعي). هناك خطركبير فيه الكثير من التعدي على الأخلاق العامة وحقوق الآخرين، وفيه تدعيم لقوى الشر التي قد تهدد أمن الناس وحياتهم ومُثُلهم وحتى دينهم. انظروا كم من المقاطع المسيئة التي تتلقاها أجهزتكم في اليوم والليلة، وفيها ما فيها من إشاعات كاذبة، ومواقف سامجة، وتلفيقات باطلة، وفيها كذلك سخريات مقيتة بأديان الناس ومذاهبهم وعاداتهم وحتى حياتهم اليومية، ويحمل الكثير منها استغلالاً فاضحاً للصغار والكبار، وإظهارهم بمظاهر مضحكة بهدف إضحاك الناس..! ويصل الحال ببعض الساذجين أنهم يمررون هذه الأباطيل والشنائع لتصل إلى عموم الناس، دون وعي منهم بخطورة ما يصنعون، وكم من مقطع فيديو، أو كلام مكتوب، أو صورة معروضة، دلت على باطل، وانتهكت حرمات، ودلت على ارتكاب جريمة، وشوهت صورة بلد وأهله، بل ساعدت على إيذائه وإضراره، وقدمت ما يتمنى أعداؤه.
كنا نعهد الناس إذا التقوا في مناسباتهم؛ يتحدثون مع بعضهم، ويبش بعضهم في وجه بعض، وتظهر بينهم الألفة والمودة، حتى حلت الأجهزة الكفية في أيدي الصغار والكبار، فإذا كل واحد من الناس (جهازه في عنقه)..! لا ينتبه لأحد، ولا يكلم أحداً، ولا ينظر لأحد، وقد يكتفي من غدائه أو عشائه برائحته، دون لمسه أو النظر إليه..!
أوقات ضائعة مع هذه الثورة المعرفية التي لا تخلو من فوائد، لكن سلبياتها أصبحت طاغية، وقليل مما تنقله بين الناس سار ونافع، ولكن الكثير مما يسري بين الناس عبرها هو عبارة عن أخبار سلبية لحوادث شنيعة، ومواقف سيئة، ومصادمات ومشاحنات على عدة مستويات، فردية وجمعية ودولية. وهناك من يتحدث عن عدة أمراض عضوية ونفسية لم تعرفها البشرية من قبل، يتسبب فيها الإدمان على استخدام الانترنت، ومن أظهرها العزلة والاكتئاب.
كيف نستفيد من هذه القنوات المعلوماتية، وفي الوقت نفسه نتجنب سلبياتها ومضارها، أو نقلل منها..؟!
الجواب يحتاج إلى متخصصين في ميادين عدة، علمية ونفسية واجتماعية وقانونية وخلافه، ولكن الأمر يحتاج إلى تدخل سريع في مسألة انتهاك خصوصيات الناس وهتك أعراضهم، وإلحاق الأذى بهم، والإضرار بحياتهم وأمنهم ومعتقدهم. لا بد من سن أنظمة صريحة واضحة، وتشديد الرقابة والملاحقة والمحاسبة، لكل من يخالف هذا، من ما كان، وأينما كان.
أديان المجتمعات وأخلاقهم خط أحمر، ليس من البساطة تجاوزه:
إذا أصيب القوم في أخلاقهم
فأقم عليهم مأتماً وعويلاً