زكية إبراهيم الحجي
منذ ظهور تكنولوجيا المعلومات والاتصالات واتخاذها حيزاً رئيسياً من حياة الإنسان اليومية، جذبت اهتمام الباحثين في علم الاجتماع والاقتصاد والسياسة، نظراً لارتباطها بمناحي الحياة المختلفة خاصة في عصر العولمة.. ومن أهم وسائل تكنولوجيا المعلومات وأكثرها إثارة في هذا المجال هو «الإنترنت» وما يشكله من حلقات رابطة بين السياسة والاقتصاد والثقافة.
ولعل «القرية العالمية» التي أشار إليها مارشال ماكلوهان الأستاذ الكندي وصاحب الفرضيات الأكثر جدلاً في وسائل الاتصال الجماهيري، هي التي أثارت كماً من الأسئلة حول إمكانية اندماج الشعوب وثقافاتها لتتحول بالفعل إلى قرية واحدة.. وعلى الرغم من صعوبة التأكد من صحة هذه الفرضيات وفقاً لرأي «ماكلوهان» إلاّ أنّ هناك العديد من الأمثلة في حياتنا اليومية التي توضح صعوبة التجانس المطلق، فمثلاً قد تتغير عادة الاستهلاك اليومية لسلع معينة وكماليات محددة في حياة إنسان ما.. لكن من الصعب أن تتغير جوهر العادات والتقاليد المرتبطة باللغة أو المجتمع أو المرتكزة على أمور دينية.. لهذا قد يكون الإنترنت تحدياً للعولمة الثقافية أكثر من كونه محفزاً لها.
إنّ علاقة الإنترنت بالعولمة الثقافية مرتبطة بتدفق المعلومات الهائلة في الفضاء الإلكتروني، إضافة إلى موجات الهجرة البشرية بحثاً عن العلم أو العمل، والتي لا يمكن فصلها عن التدفق المعلوماتي في السوق الاقتصادي أو في مجال السياسة وميادين الثقافة.. لهذا نجد أن تبني الأفكار الجديدة في المجتمعات وفي مجال العولمة ليس بالأمر السهل.. وهذا ما يجعل قالب العولمة الثقافية متحولاً قوة وتأثيراً من مجتمع لآخر، نتيجة الفجوة الرقمية التي تمثل تحدياً قوياً أمام خلق مجتمع عالمي متجانس تماماً، ناهيك عن مكونات الثقافة المختلفة في كل مجتمع كاللغة والعادات والتقاليد والمعتقدات، والتي تشكل سداً منيعاً كونها تمثل الهوية الفردية والجمعية.
ولأنّ الثقافة وطبقاً لتعريف عدد من المفكرين هي كل نشاط إنساني محلي نابع من البيئة، وأنها تمثل المحيط الفكري الذي يعيش فيه أفراد مجتمع ما، وفقاً لأنماط نابعة من ظروفهم الاقتصادية والاجتماعية والنفسية والبيئة الجغرافية، أو بتعبير المفكر الأمريكي «جون ديوي»، حيث يقول بأنها محصلة التفاعل بين الإنسان وبيئته، وحيث إن الإنترنت بتطبيقاته المختلفة، أصبح جزءاً من المحيط الذي نعيش فيه، لذا بات من الضروري النظر بصورة جدية لطبيعة الثقافات التي غزت مساحات واسعة من وعينا وفكرنا.
وحيث إن ثقافة الإنترنت ليست نتاج جهاز الكمبيوتر كما يعتقد الكثير، بل هو محصلة استخدام الكمبيوتر، لذا فإنّ المحصلة إما إصلاحية أو تخريبية.. إصلاحية لأنه مد جسور الحوار بين الثقافات وخرج بالقضايا السياسية والاقتصادية والاجتماعية وتداعياتها الإنسانية والثقافية، من نطاق المحلية المحدود إلى نطاق العالم الواسع.. وبالتالي حقق التواصل بين المثقفين والمفكرين وأوجد طرق نشر غير تقليدية.. أما إذا تناولنا الجانب السلبي بل الجانب التخريبي، فإنه تحول على يد البعض إلى أداة هدم وتخريب وإفساد، من خلال التحريض ونشر الشائعات وبث الفتن، ناهيك عن تهديد للغتنا العربية والتقليد الأعمى الذي ألقى بظلاله السلبية على ثقافة وسلوكيات الشباب.
عالم البحث في علاقة الإنترنت بالعولمة الثقافية لن يتوقف مع تسارع المتغيرات في هذا المجال.. والعالم لا يمكن إنكار تأثير التكنولوجيا على مختلف جوانب الحياة الإنسانية، ولكن ومن ناحية أخرى لا يمكن للتكنولوجيا وفي ظل الفجوة الرقمية، أن تتجاوز العرق والدين واللغة والتنوع الاجتماعي، وغيرها من مكونات الهوية الثقافية.. لذا فإنّ التجانس المطلق بين شعوب العالم هو سريالية بعيدة المنال، فاتساع نطاق الاتصال التكنولوجي لن يجعل من العالم شعباً واحداً.