لبنى الخميس
ما زلت أذكر وجهي العابس وأنا أدلف إحدى قاعات كلية القانون في جامعة الملك سعود. أكتب تدويناتي الدراسية بإحباط وعدم شهية.. أتجول في أروقة الكلية وأنا أردد في أعماقي «ماذا فعلت؟ وكيف انتهى بي المطاف في تخصص لا ينتمي له شغفي وميولي منذ الطفولة للصحافة؟».. إذ عرفت وأنا أقرأ الصحف بلا توقف، وأحلل الأخبار، وأختلق العناوين الصحفية، وأبحث وأنقب عن الكلمة كما يبحث الآخرون عن الذهب والألماس.. أنها شغفي، أو بمعنى آخر سعادتي.. لكن كلية الإعلام لم تكن موجودة في أي من جامعات المملكة للبنات آنذاك؛ ما دفعني إلى أن أقبل نصيحة أحد أقاربي، وأتخصص في القانون.. الذي كان يحظى وقتها بشعبية صاعدة، لكني أعترف بأن هذا القرار كان أحد أسوأ القرارات التي اتخذتها! وأنا أساوم على أربعة أعوام من عمري، وأحتفي بالخيار البديل بدلاً من أن أكافح لتحقيق القرار الأقرب لنفسي.
وبعد مرور عام.. بدأت عدم سعادتي ورضاي عن التخصص تنعكس على معدلي التراكمي، والتزامي بحضور المحاضرات، حتى قررت ذات «حزم» أن أتقدم لكلية الشيخ محمد بن راشد للإعلام في الجامعة الأمريكية في دبي. وبفضل من الله وحمده حصلت على منحة كاملة في تخصص الصحافة (رغبتي الأولى).. فبات ذلك ينعكس على معدلي التراكمي الذي لم أتصور يوماً بأني قادرة على تحقيقه.. وبفضل من الله تخرجت قبل أسابيع.. وأنا سعيدة وممتنة؛ لأني اتخذت القرار الصحيح، ولم أستسلم لضغوطات المجتمع.
أردت أن أشارك القراء قصتي اليوم؛ لأن هناك آلاف الطلاب والطالبات الذين تخرجوا من الثانوية، وما برحوا يعانون ضغوطات وتأثيرات اجتماعية وأسرية متعددة بشأن التخصص الجامعي؛ لذا سأقدم لهم ثلاث وصايا متواضعة، كان لها انعكاس إيجابي ومؤثر على حياتي الشخصية:
- لا تستمع للنصائح المستهلكة.. فمعظم من يوصيك بها شخص ممل: الكثيرون ممن يقدمون لك النصائح بشأن التخصص لم يتعرفوا يوماً على لذة أن تتبع شغفك، وفخر أن تنتصر لرغبتك الشخصية، وتستجيب لصوتك الداخلي. هؤلاء الناصحون التقليديون مملون، يفضلون الطرق السهلة الآمنة، التي تقودك إلى وظيفة، فراتب، فترقية، فزواج، فبيت، فأبناء، فتقاعد، فموت.. لكن الإنجازات الكبرى والأناس غير العاديين لا يطمحون لتلك الأحلام المألوفة والإنجازات المستهلكة، بل يسعون لحياة مليئة بالتجارب، مفعمة بالمغامرات، متفجرة بالإنجازات.. هؤلاء المتميزون لا يتوقعون أن يضيف لهم التخصص بقدر ما يطمحون هم إلى أن يضيفوا له، لا ينتظرون الفرص بل يخلقونها بوقود شغفهم وإيمانهم بمجالهم.
- ابحث عن شغفك.. وإن لم تجده فاستمر في البحث. في كل صباح نشاهد منظراً مألوفاً في شوارع المدن السعودية، زحمة خانقة، ومسارات واقفة، وجوهاً عابسة مكفهرة.. وشخصاً في آخر طابور السير يتساءل: لماذا لست سعيداً في عملي؟؟ أحمل أرجلي بتثاقل إلى المكتب، وأجر خلفي أذيال خيبات وأحلام كبيرة عجزت عن تحقيقها، حين انغمست في عمل لا يشبهني ولا أشبهه، أداوم منذ سنين طويلة في مؤسسة أعلم جيداً أنها لن تقدم لي سوى الملل والمرتب والقلق من عدم تحقيق أهداف آخر العام.. وأنت لا تدري بأن التعيس في عمله في الغالب تعيس في حياته، والسعيد المحب لما يقوم به سعيد غالباً في حياته؛ لأن العمل هو منبع الإشباع والتقدير الذاتي؛ لذا نجد أن من يمارس ما يحب ليس ناجحاً فحسب بل سعيداً؛ لذا اختر تخصصاً يعينك على صقل شغفك أكاديمياً، ويزيد من فرص تحويله إلى مصدر رزق، حتى وإن بدت التخصصات الأخرى أقوى وأعلى «بريستيجاً» اجتماعياً.. وكما يقول المثل: «اختر عملاً تحبه، ولن تضطر لأن تعمل يوماً آخر في حياتك».
- التخصص وحده لا يكفي. حتى لو تبعت قلبك، وتخصصت في مجال يستهويك، لا تفقد شعلة فضولك، استمر في تطوير مهاراتك بقراءات متنوعة ودورات تدريبية، وورش عمل، واسعَ لحضور مؤتمرات وملتقيات توسع من آفاق ثقافتك وإلمامك بهذا المجال. ولعل أفضل شكل من أشكال تعزيز فهمك لهذا التخصص هو أن تتدرب في إحدى المؤسسات الرائدة في هذا المجال، ولا تخف بأن تطرق أبواب كبرى الشركات؛ فالكثير منها لديها برامج تدريبية متخصصة ومدروسة.. ما سيقربك أكثر من الواقع الوظيفي، ويمنحك فهماً أكبر لسوق العمل، ويثري شبكة علاقاتك.