لبنى الخميس
بعلامات التعجّب والانّدهاش اللذيذة، ووسط سيل متدفّق من الكلمات التي تزاحمت على طرف لسانها، تحدثني والدتي عن رحلتها إلى الهند، بلاد العجائب، ودرّة تاج الامبراطورية البريطانية التي لا تغيب عنها الشمس في القرن الماضي.. أرض غاندي وطاغور و»بوليوود»، ووطن يجمع بين أحضانه أكثر من مليار نسمة، يتحدثون أكثر من مئة لغة، ويعتنقون ما يزيد على مئة ديانة، في لوحة إنسانية ملونة، تعّبق بالتسامح والتعايش الجميل.. فهذا بوذي.. وهذا هندوسي.. وذاك مسلم.. وتلك العجوز بردائها الهندي الأصيل مسيحية فخورة. يعيشون مع بعضهم ضمن كيلومترات متقاربة، يرتاد أبناؤهم ذات الفصول المدرسية، يعملون في نفس المصنع، يهنئون بعضهم بأعيادهم الدينية، ويرفعون علم الهند شامخاً خفاقاً اعتزازاً وحباً بوطن احتضن اختلافهم، وكفل السلام والأمان لهم. نعم، هم فقراء بالمال.. لكنهم أثرياء بالإنسانية.. وشتان بين هذا وذاك.
تكمل والدتي حديثها.. ويسرح خيالي في حال عالمنا العربي، الذي ينطق بلغة عربية واحدة، وتعتنق أكثريته دين واحد وهو «الإسلام» لكنه مقسم ومشرذم بألف عقدة ومدخل للخلاف.. ما دفعني لاحقاً للتساؤل ما الذي يدفع البعض منا للتقليل من هذه الجنسية ووصمها بالفقر والغباء؟؟ أليس تعايش 100 ديانة مع بعضها بتسامح وسلام أعلى مراتب الغنى والذكاء والرقي الإنساني؟ أليس تطور أمة وتقدمها اقتصادياً ومعرفياً وتكنولوجياً وضمها - أكبر نسبة عباقرة تقنية في العالم- بالرغم من اختلاف مرجعياتهم الدينية والعرقية مشهد مذهل يجب علينا كعرب وخليجيين أن نرفع له القبعة ونتعلم منه؟
أكتب هذه الكلمات وأن أغصّ بوجعي على حادثة تفجير مسجد الإمام بمنطقة القديح الجمعة الماضية، والتي توفي على إثرها 21 شهيداً وأصيب العشرات.. في حادثة دنيئة وخسيسة استهدفت أطهر البيوت.. بيت الله {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُوْلَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَآئِفِينَ لهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (114) سورة البقرة.
تلك الحادثة التي تقف خلفها أسباب سياسية هدفها تفكيك قبضة المملكة المحكمة على أمن المنطقة وإشغالها عن ملفات الخارج، عبر هزّ صفوف بيتها الداخلي، عزفاً على وتر الطائفية، في منطقة تغلي أصلاً فوق صفيح ساخن من الانقسام المذهبي. لكن الوعي الوطني المتزايد تجاه هذه القضية، وكشف نوايا وألاعيب الأصابع الخارجية القذرة، التي تهدف إلى إثارة زوبعة شعبية، والإيقاع بين أبناء الوطن الواحد وقف حائلا ً أمام الانجرار خلف تداعيات الحادثة.
وهذا ما تؤكده مواقع التواصل الاجتماعي التي باتت تعلب دور مؤشرات استطلاع الرأي الدقيقة، و»ترمومتر» القبول أو الرفض الاجتماعي، إذ أطلق مرتادوها هاشتاقات تحذّر من الوقوع في شباك العنصرية، والانجرار نحو مزالق الطائفية التي لا تخدم سوى مصالح المعتدي.
هذه الأحداث التي تبدو من السطح ذات طابع سياسي بحت، تحمل في طياتها «فرصاً» تاريخياً لنا كسعوديين لنعمل من الداخل لتكثيف خطاب التسامح، ورفع قيمة التعايش المذهبي إلى رأس القائمة، وزرع مفاهيم الاختلاف لا الخلاف في عقول وقلوب أطفالنا الغضّة، فالواقع يقول يكبرون بجانب خادمة تختلف عنهم بالوطن والعرق وربما الدين واللون! ويتشاركون معها إنسانياً بكثير من الجوانب.. ما يمنح الأهل فرصة للاحتفاء بهذا النموذج وتقديمه لأبنائهم كصورة بريئة للاختلاف المقبول.
أخيراً.. علينا أن نعترف بأن بيننا من يدعو للعنصرية والطائفية والمناطقية والتحزّب، ومن حولنا مصطلحات بشعة تكرس لهذا الخطاب الرجعي في البيت والمدرسة والمسجد.. لكن النتائج البشعة على الأرض، يجب أن تعلمنا الدروس وتسقينا العبر، وتجارب الأمم التي شغلت نفسها «بالخلاف» بدل أن تحتفي «بالاختلاف» كاليمن والعراق، دفعت سنين طويلة من عمرها دون أن تقدم أي إنجازات ملموسة للبشرية، فتحولت إلى عبء أممي تُعقد لحلّه المؤتمرات والجلسات، ويعاني شعبه ويلات الانقسام والتشرّذم الطائفي، في حين نجحت الأمم الواعية المدركة للغنى والثراء الذي يمنحه التعدد والتنوع، بالوصول إلى سلام وتعايش بشري، وبالتالي انشغلت بالتخطيط لمستقبلها، ووضع اسمها في مصاف الدول الناهضة والأمم السعيدة.