سمر المقرن
ليست كوثر الأربش أول ولن تكون آخر أم يموت ابنها شهيدًا في سبيل الوطن، إلا أنها أول أم يموت ابنها في سبيل القضية التي نذرت نفسها لأجلها منذ سنوات، لتقدم لنا أنموذجًا متكاملاً، انتقل من مرحلة الكتابة والكلام إلى مرحلة الحالة المحسوسة لقضية متكاملة من جوانبها كافة.
لم أستغرب ما كتبته كوثر الأربش في رثاء ابنها، الكلام الذي كتبته ينسل بعاطفة الأمومة التي لم تتجرد خلالها من حبها لوطنها وخوفها عليه، بالرغم من أنها في حالة نفسية صعبة، وفي مثل هذه الحالة تخرج الكلمة صادقة بلا رتوش ولا مبتغيات شخصية. لم أستغرب ما كتبته بقوة وثبات المرأة الصارمة التي عرفتها من خلال كتاباتها، سواء عمودها في هذه الصحيفة، أو عبر تغريداتها في تويتر وردودها الواثقة على مخالفيها.
الاختلاف مع رأي المرأة في مجتمعنا أكثر صعوبة من الاختلاف مع رأي الرجل؛ فالكاتب الرجل مهما حاول مخالفوه تسطيحه إلا أنه يظل «رجلاً» في عيونهم، أما المرأة فيراها المجتمع في مرتبة أقل، وبعضهم ما زال يعتقد أنه ليس من حقها أن تعلن رأيها، بل أن لا يكون لها رأي من الأساس؛ لأنها مجرد تابع؛ لذا الهجوم على المرأة يتسم - غالبًا - بالخسة والدناءة والوضاعة، وهذا أقوله من تجربة شخصية، لا تختلف كثيراً عن تجربة زميلتي كوثر الأربش؛ فكلنا في مركب واحد، ونواجه شريحة متقاربة، سواء من ناحية التطرف الفكري والديني أو حتى من ناحية التطرف الاجتماعي والنظرة الدونية للمرأة!
من هنا أعود إلى عدم استغرابي من قوتها في مواجهة أصعب حدث قد تعيشه أي أم؛ فهي المرأة التي واجهت طوفاناً من التطرف، وبقيت قوية، بل إن كل الطعون التي رميت تجاهها لم تزدها إلا قوة في قول الحق، وقوة في مواجهة الباطل، بل إصراراً على نقد الموروث الديني والمفاهيم الدينية المغلوطة التي هي سبب لما نقطفه اليوم من تطرف وعنف وقتل ودماء وأشلاء متناثرة توجع القلب.
عندما قرأت ما كتبته كوثر الأربش بعد ساعات قليلة من استشهاد ابنها محمد العيسى - رحمه الله - لم يمر على ذهني سوى قوة الخنساء وموقفها من استشهاد أبنائها. المرأة تعود لتسجل المواقف القوية ومواجهة الظروف الصعبة، في مجتمع ما زال ينظر إلى المرأة أنه مخلوق ضعيف، وبدون حماية الرجل يضيع في غياهب الذئاب!
بعد هذه الحادثة التي جسدت فيها كوثر الأربش مشاعر أم الشهيد لا بد أن لا ننسى أن في هذا الوطن مئات لأمهات شهداء لا يعرفهن المجتمع، وأننا بحاجة إلى تدشين جمعية تحت مسمى (أم الشهيد)، تكون رئيستها الزميلة كوثر الأربش أو غيرها من أمهات الشهداء، تضم كل الأمهات، سواء اللواتي فقدن أبناءهن منذ سنوات طويلة، ومنهن من ليس لها عائل سوى ذلك الابن. أعلم أن وزارة الداخلية لم ولن تقصر في دعم أسر الشهداء العسكريين ماديًّا ومعنويًّا، لكن هناك شهداء مدنيين لا أحد يعرف عن أسرهم وأمهاتهم شيئًا، وتكون هذه الجمعية داعمًا معنويًّا لهنّ، وتكريمًا لثباتهن وصلابتهن، ومن خلالها نتعرف على نماذج لهؤلاء الأمهات القويات، فالإنسان يموت ويمضي كل أحبته إلى حياتهم ومشاغلهم، ما عدا الأم تبقى تعيش بصخرة موجعة، ترزح على قلبها طيلة عمرها ألمًا وحسرة!