د.محمد الشويعر
الذكاء هبة من الله يعطيها لمن يشاء من العباد, وليس هذا دليلاً على التميز؛ والذكاء والفطنة كلمتان متلازمتان بمعنى واحد, إلا أنّ بعض الكاتبين أعطوا كل كلمة مدلولاً وقالوا: إن كلمة الذكاء أوسع في الدلالة من الفطنة.
فقد جاء «الذكاء» لتعبر عن دلالة خاصة بها, ففي الغالب: أن كل ذكي فهو فطن, وليس كل فطن فهو ذكي, وأحياناً تطلق كلمة فطن في بعض المواقف, مرادفة للذكاء؛ لأن العرب استعملوها مطلقاً، هذا في الكلام والاقتران.
وهذا الاقتران في الدلالة, نتج عن الاستعمال الشائع، وفي الحقيقة بينهما تلازم واقتران، فالفطنة تُدرك بالمقارنة مع موضوع معين، فالفطنة مأخوذة بالمقارنة, والقياس عن حالات حصلت لأفراد, وحصلت لها نتائج, كانت مرضِية, إذا قاس عليها بعض من عرفوا الأسباب, فقد يحققون النتائج نفسها التي حصلت لغيرهم في حالات طارئة (نتائج مرضية) وفي المقارنة نرى أن الفطنة والذكاء متلازمتان, إلا أن الذكاء أكثر دلالة.
وعندما نعرض هذه الدلالة على الواقع والاستعمال، نجد أن الناس في استعمالهما جعلوهما متلازمتين. لكن بالنتائج تختلف، بحيث أن الذكاء أشمل في الدلالة من الفطنة، كما سبق توضيحه.
وما رأينا أن أصحاب المعاجم فرقوا بينهما, بل جعلوهما في الاستعمال شيئاً واحداً.
لكن في العصر الحاضر, مع كثرة المخترعات يجعلون المخترع والمؤلف وغيرهما من أصحاب المبتكرات والاختراعات التي أصبحت علماً مستقلاً, وله حماة فكرية، مما أوجد الحماية في أسبقيته للموضوع الذي برز فيه هذا الشخص بنتاج فكره.
أما الفطنة فقد كانت في كثير من الأمور, مندمجة في الذكاء.
ولذا نرى المؤلفين يعطون حق الابتكار للأذكياء, مع حق الأسبقية في حق الاحتكار, وحق الأسبقية، ولم يفرقوا بين الذكاء والفطنة, فاعتبروا كل مؤلف ذكياً.
والعرب في مؤلفاتهم قديماً, أنه لا فرق بين المؤلف والمخترع، ولم يعرفوا حق الملكية، فمثلاً: إن المؤلفين والصناع, وأصحاب الأفكار كانت مؤلفاتهم وأفكارهم التي ازدادت مع توسع المعارف, ميداناً غير محتكر, وما عُرف حق الملكية إلا بعد الاحتكاك بالغربيين.
ونرى المؤلفين والشعراء عند العرب وبعضهم لم يعرفوا التفريق بين المسخ والسلخ الذي يهتم به بعض الكاتبين.
ولا نقول: إن الجاحظ في مؤلفاته الكثيرة, مثل الحيوان، قد سبقه الدميري, وألف البخل وقد كتب في موضوعات كثيرة, ويقولون: للأفضل السبق، والثاني فضل الإجادة، بل نقول كما قال المبرد في كتابه الكامل: (ليس لقدم العهد يفضل القائل ولكن يعطى كلُ ذي فضل فضله) وفي هذا نعطي فكرة عامة عن الأدب العربي القديم: وهو موضوع شيق لمن يطلع عليه.
جاء في كتاب «نفح الطيب»: عن ذكاء الملوك: أن تاجراً, جاء للمنصور العباسي, يشتكي إليه مما صار له, وهو تاجر من تجار المشرق, من مدينة عدن جوهري كعادة التجار, وهذا الرجل يعرفه الخليفة, حيث يعرض عليه من تجارته, وقد عرض على المنصور تجارته, فيأخذ منها ما يعجبه لأهل بيته, هدية لنسائه.
وفي مرة جاء هذا التاجر, وعرض على المنصور تجارته؛ ليأخذ منها لأهل بيته, كالعادة، فأخذ منها ما أعجبه, وكانت يمانية, ومن شدة حرصه خلع هذا التاجر ملابسه ليتبرد, وجاءت حدأةٌ, فمرت، فرأت الصرة التي فيها الجواهر، وهي حمراء اللون كاللحم, وهي تحسبها لحماً, وطارت بها.
إلى آخر القصة التي تحكي ما صار له, وماذا حصل له من الحزن؛ لأن ذلك رأس ماله.
وهذه الحكاية قد مرت قبل التلمساني صاحب نفح الطيب، فقد كانت عند ابن الجوزي، وفي هذا العصر أيضاً نسبت إلى أحد التجار في العصر الحاضر من نجد الذي كان من تجار العقيلات, وكل يدعيها, ولو كانت هذه الحكاية لأحد تجار الاحتكار الفكري لاحتكرها لنفسه, وأقام دعوى بحق كل من ينشرها بدون تفويض.
بينما عندنا سوف لا يلتفت لها إلا بالتنويه فقط؛ أو أخذ القصة وتناولها في المجالس فقط, ثم تسترها الأيام كنماذج مما يمر في مجتمعنا الصغير؛ ولذا الكتب العربية لمن يقارن يعتبرون الأول له فضل السبق، والأخير فضل الإجادة فقط.
ولا شك أن الذكاء, والفطنة منحة من الله يهبهما لمن يشاء, فإن استعملهما فيما ينفع كان مكسباً طيباً لصاحبهما ذكراً أو أنثى، كما هو في المخترعات الحديثة, وإن استعملهما أو أحدهما، فيما يضر أو يلحق الأذى بغيره كان وبالاً لصاحبهما، وليس هذا وقفاً على فئة من البشر دون الآخرين.
في تاريخنا كثير من العرب, برزت فيهم الفطنة أو الذكاء, ولم يكن من المسببات, ما يفتح القريحة, كإياس بن معاوية المشهور بالذكاء, وكما حصل للشاعر المشهور أبي تمام حيث أعد قصيدة في مديح المعتصم العباسي, وشبهه ببعض المشاهير من المعروفين في زمنه بالشجاعة، وعندما ألقاها أمامه وبدأ في مديحه, تحرك بعض الحاسدين؛ ليقول: أمير المؤمنين فوق من ذكرت من أجلاف العرب, ولما سمعه أبو تمام الشاعر, لم يرتبك ولم يقطع تسلسل القصيدة، بل ارتجل على الفور قائلاً:
لا تنكروا ضربي له من دونه
مثلاً شروداً في الندى والباس
فالله قد ضرب الأقل لنوره
مثلاً من المشكاة والنبراس
فكان هذا الموقف منه من أجمل أمثلة الذكاء وسرعة البديهة في التاريخ العربي، بل والتراث الأدبي عموماً.