محمد آل الشيخ
قبيل الربيع العربي أو على الأصح الدموي، كان من الواضح أن هناك قناعة لدى صناع القرار في الغرب، فحواها أن مواجهة الإرهاب، وثقافته، تتطلب تبني (الإسلام المعتدل)، ليواجه (الإسلام المتطرف)، ويحد من انتشاره وخطورته. والإسلام المتطرف في قواميسهم مصطلح يعني التوجهات (السلفية) حصرا؛ لذلك تبنى الأمريكيون ودعموا بكل قوة (جماعة الأخوان) والمنتسبين إليها، ليحكموا مصر؛ على اعتبار أن هذه الجماعة تمثل الإسلام المعتدل.. غير أن النتيجة التي أثبتها الواقع على الأرض لهذه النظرية بعد تجريبها جاءت عكس ما كانوا يتوقعون تماما؛ فجماعة الأخوان حين تسنمت القيادة هناك، بدعم أمريكي وغربي واضح، انتشر الإسلام المتطرف وتغول أكثر، وزاد أنصاره، واتسعت بشكل لافت جغرافيته وأمكنة استقطابات أنصاره، حتى شملت المسلمين في الغرب أيضاً؛ فكان دعم الإخوان ليتولوا السلطة، خيارا خاطئا، زاد الطين بللا، ورسخ المشكلة بدلا من حلها؛ خاصة في مصر وتونس؛ فحركة (القاعدة) مثلا والتي كانت تُجسد الإسلام المتطرف، جاءت حركتا (داعش) و(بوكو حرام) بإسلام أكثر تطرفا وعنفا وشراسة ودموية من القاعدة نفسها. فثبت أن أس المشكلة تسييس الإسلام، وليس السلفية.
مشكلة الغربيين، ومعهم كثير من المثقفين العرب، تكمن في عدم تفريقهم بين (السلفية التقليدية) الموروثة والمستقرة منذ مئات السنين، و(السلفية المتأخونة الحركية) المنتشرة حديثاً؛ وتحديدا فيما يتعلق بالنظرية السياسية، واختلافها بين هؤلاء وأولئك، وهنا لب المشكلة، وباعث الإرهاب الأول.
السلفية التقليدية لا علاقة لها بالسياسة، وليست من أدبياتها؛ فالسلفيون التقليديون، يؤمنون إيمانا كاملا بطاعة ولي الأمر - (الحاكم السياسي حصرا) - ولا يقرون التمرد والخروج عليه، ولا منازعته في سلطاته؛ والآثار والأدلة على ذلك تجدها واضحة ومباشرة في مدوناتهم ومقولات علمائهم الموروثة؛ أما الذي أفرز الإرهاب فهو التأخون السلفي، أو بلغة أخرى مزج فكر الأخوان السياسي بالموروث السلفي العقدي، وليست السلفية التقليدية الموروثة كما كانت عند علماء السلف؛ وهي تختلف اختلافا جوهريا في السياسة والتعامل السياسي تحديدا عن السلفية المتأخونة؛ فالسلفيون الحقيقيون كما تنص آثارهم لا يجيزوا الخروج والتمرد على السلطة، طالما أن من يحكمهم قبلوا بسلطته عليهم ابتداء بأية وسيلة أقروها واتفقوا عليها؛ وبالتالي إذا بايعوه - (اتفقوا على تنصيبه حاكما) - فلا يجوز التمرد والخروج عليه؛ بَرّاً كان أم فاجرا؛ شريطة ألا يؤخر الصلاة عن مواقيتها ولم يقترف كفرا بَوَاحا عليه أدلة قطعية تؤكد أن ما اقترفه كان كفراً لا خلاف عليه. أما جماعة الأخوان فيرفضون ذلك جملة وتفصيلا، ومثلهم كذلك السلفيون المتأخونون؛ ومن هنا أقحموا الدين في السياسة وشؤونها، وهذه هي الجذوة التي أشعلت حطب الإرهاب في البدء.
فالسلفي الحقيقي يطبق ويتمسك بالنصوص تمسكا يكاد أن يكون حرفيا، وهناك نص ورد في البخاري من حديث «عبادة بن الصامت» - رضي الله عنه - يصف بيعته عليه الصلاة والسلم لأصحابه، ومن شروطها: (وألا ننازع الأمر أهله), ومعنى منازعة الأمر أهله، أي لا يتازع من في يده السلطة؛ وهذا يعني أن السياسة وشؤونها وتفاصيلها، فضلا عن نضالاتها ومماحكاتها، لا تعنيهم؛ فهي في معاييرهم منطقة (عفو) أو (سماح)، تركها جل وعلا لتحكمها قاعدة (أينما تكون المصلحة فثم شرع الله)، والمصلحة تتغير حسب المكان والزمان، أما من يتلمس المصلحة، ثم يُقررها ويوجه المجتمع إليها، فهو السياسي وليس الديني؛ وتنتهي تدخلات السلفيين في السياسة عند هذا الحد ولا يتجاوزونه قيد أنملة؛ بل يعتبرون أن مجرد (مزاحمة الحاكم أو منازعته أو التمرد على سلطاته)، من المحرمات القطعية شرعا.
هذا ما يجعلنا نذهب إلى القول بأن السلفيين، إذا تخلصوا من أدبيات الأخوان التي تنسف ما استقر عليه أهل السنة منذ مئات السنين، فهذا تحديدا هو (الإسلام المعتدل)، وليس من يُسيسون الدين ويمتطون مفاهيمه، ومظهرياته، للوصول إلى غايات سياسية حزبية، تنتهي - كما هو مُثبت ومشاهد - إلى الإرهاب والعنف والتكفير ونسف استقرار المجتمعات، والغرض أن يصلوا إلى السلطة.
بقي أن أقول: السلفي الحق يخاف من أن يكون في اقتحامه السياسة وشونها، مساسا بورعه وتقواه ونقاء توجهاته وتعباداته، وأن يخالطها شيء من الرياء؛ لذلك يتحاشى السلفيون القدامى السياسة تعففا وورعاً.
إلى اللقاء