د. عبد الله المعيلي
كانت الجزيرة العربية مسرحاً ومرتعاً للفوضى، والتعدي والعدوان والبغي، وكانت الثقافة العامة السائدة فيها أن الغلبة للأقوى، فالمتسلط المتجرد من معاني الإنسانية والرحمة والرأفة هو سيد الموقف، وكان لضعف الوازع الديني، وشح المال، وقلة فرص الحياة الكريمة، وضيق ذات اليد، وغيبة الدولة وهيبتها، وأجهزة الأمن وسيطرتها، الدور الرئيس في تفشي هذا الوضع غير الإنساني الذي يتنافى مع أبسط معاني القيم، والحياة الكريمة.
فوضى عارمة ضاربة أطنابها في كل مكان وآن، هذه الأجواء الكئيبة كانت السبب الرئيس في تفشي ظاهرة (الحنشلة) واتساعها، حتى غدت ملازمة للحياة اليومية، مما زاد من قسوة الحياة قسوة وضيقاً، وطغت سلطة التخويف والخوف على النفس والمال والأعراض، فلم يعد أحد يأمن على نفسه أو ماله أو عرضه، وبالتالي كان الخوف سيد الموقف، وهو الطابع العام لنمط الحياة اليومية للناس.
لذا كان الكل يحرص على أن يأوي إلى بيته قبل مغيب الشمس، كي لا يقع فريسة للحنشولي الذي لا يخشى في أحد إلاً ولا ذمة، ومما زاد من سلطة هاجس الخوف أنه لا يكاد يمر يوماً إلا ويسمع عن اعتداء الحنشل هنا وهناك، يسلبون الأموال والماشية والمتاع، ويقتلون لأتفه الأسباب دون رحمة أو خشية، فصار هذا الاسم البغيض والاستعداد اليومي لمواجهته أحد متلازمات الحياة المتسم بالقلق والخوف.
وكانت صور الحنشلة بجحة علنية ظاهرة للعيان، لا تخشى ولا تخاف، لا ممنوع في قاموسها ولا محرم، فكل متاح عندها مباح، لأنه يشكل المصدر الرئيس لحياة الحنشل، حتى وإن أدى إلى هلاك الآخر، المهم أن يفوز بغنيمة يسلبها حتى وإن كانت تافهة من كل ما هو متاح من متاع وخلافه، والويل كل الويل لمن يقاوم أو يعترض، حيث الثمن سيكون باهظاً، إنه القتل العلني في رابعة النهار، والنتيجة لا منصف يحتكم إليه، ولا منقذ يلجأ إليه.
يذكر أحد الشباب عن جده، أنه قل أن يمر أسبوع إلا وتحصل فيه حادثة حنشلة عندهم أو في القرى المجاورة لهم، ومما رواه الجد مما مر بهم وهو كثير: أنهم عندما أصبحوا ذات يوم تبين لهم أن كل مزارعي القرية قد سرقت أبله التي يصدر عليها، وأن الأغنام والبقر التي يعتمد عليها بعد الله باعتبارها المصدر الرئيس للبن والحليب قد سرقت كذلك، ونظراً لكثرة ما يتعرضون له من السرقات، فإن أهل القرية يعرفون مكان الحنشل، لذا توجه أحد الذين سرقت أبله وماشيته إليهم في هجرتهم، يقول: وجدت رجلاً مسناً تبدو عليه علامات التدين لابساً عمامة، قلت: الحمد لله هذا الذي سوف يساعدني في رد ما سرق منا، شرحت له ما حصل لنا، فقال: هيه أحمد الله أنك سالم، لو ما سرقك عيالي، سرقك غيرهم، قم ما عندنا لك شيء، قال: كدت أتميز من الغيظ، وأهم بضرب رأس الشايب بالعجرى التي معي، لكن لا حول لي ولا قوة، وبعد حوالي الساعة جاء أحد أبنائه على حصانه يلهث من شدة العطش والإعياء، سأله الشايب علامك؟، رد الابن أعطني ماء ريقي ناشف، واحمد الله على سلامتي أنا الناجي الوحيد من ربعي، تساءل الشايب ما الخبر؟ قال الابن: طلع لنا جيش لواحد يقال له ابن سعود شتت شملنا ولا بقى منا حنشولي واحد، في هذه الأثناء رفع المسروق حلاله رأسه، وتغشاه شعور بالأمن والاطمئنان، فبدت علامات الفرح والبشر تعلو وجهه، وقال: الآن يا ابن الحرام هات الحلال اللي سرقه عيالك، قال الشايب مستفهما هه؟ قال راعي الحلال اللي سمعت وإلا والله العظيم أوسط هالعجرى في رأسك، قال الشايب لابنه: أعطه حلاله اللي سرقتوه البارحة، قال راعي الحلال بل حلال كل أهل الديرة، وجه الشايب ابنه وهو مكره صاغر، أعطه كل الحلال ولا عاد تعودون لسرق حلال الناس.
عديدة هي صور الحنشلة التي كانت سائدة قبل توحيد المملكة وإرساء قواعد أمنها وهيبتها على يد المؤسس الملك عبدالعزيز -رحمة الله-، فقبل توحيد المملكة كانت الرؤوس مطأطئة للأقوى، وكانت النفوس مضطربة خائفة وجلة، وبعد التوحيد رفعت الرؤوس، واطمأنت النفوس وشعرت بعزتها وكرامتها.
للحديث صلة،،،