د. عبد الله المعيلي
يعد البنون من أعظم صور زينة الحياة الدنيا وأجملها.. نعمة جلى، يشعر معها الإنسان بمتعة وسعادة.. بها تتدفق مشاعر الأبوة وتزدان، وبها يشعر الأب بكيانه الآني والمستقبلي، بها تترسخ الذات، وتطمئن لامتدادها وتجدد ذكرها، وقديماً قيل: «من خلف ما مات»، وكان لهذه المقولة أثرها النفسي في تفضيل الأولاد على البنات، على اعتبار أن الولد يحمل اسم والده، وبهذا يتحقق الامتداد الأسري، ويبقى مع توالي السنين.
في السابق كان الأبناء قريبي الصلة بوالديهم، يجلسون معهم، ويخالطون ضيوفهم، ويستمعون لنصائحهم وتوجيهاتهم.. من الآباء يتلقى الأبناء معاني الرجولة وسماتها، شيمها وقيمها، ومفاهيم الصواب من الخطأ، المقبول من المرفوض، وكانت الأسر إلى عهد قريب تجسد قولاً وعملاً هذه الأبيات لأبي العلاء المعري:
مشى الطاووس يوماً باختيال
فقلد مشيته بنوه
فقال علام تختالون قالوا
بدأت به ونحن مقلدوه
فخالف سيرك المعوج واعدل
فإنا إن عدلت معدلوه
أما تدري أبانا كل فرع
يجاري بالخطى من أدبوه
وينشأ ناشئ الفتيان منا
على ما كان عوده أبوه
كانت الأسر تراقب أبناءها، تحفظهم من الزلل، ومن مخالطة من يشتبه في سلوكه وسيرته، بل إن البعض يحرص على أن يتعرف شخصياً على جلساء أبنائه وأصدقائهم وزملائهم؛ ليطمئن شخصياً لنزاهتهم واستقامة فكرهم، وحسن سلوكهم؛ لأن الآباء يدركون تماماً أهمية هؤلاء الجلساء وأثرهم الفكري والسلوكي (المرء على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل).. هكذا أمرنا وأرشدنا نبينا سيد المرسلين - صلى الله عليه وآله وسلم -. والعرب تقول (الصاحب ساحب). ويقول طرفة بن العبد:
عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه
فكل قرين بالمقارن يقتدي
كانت الأسر تحرص كل الحرص على أن تكون تنشئة الأبناء وتربيتهم تحت سمعهم وبصرهم دائماً، ووفق سمتهم وقيمهم، وما يتطلعون إليه من سمات الرجولة وخصائصها. فعلى الرغم من محدودية مصادر التكوين، ومكونات التواصل الاجتماعي، كان الآباء يوجهون الأبناء ويسألون عن أحوالهم وأخبارهم، ويراقبون تصرفاتهم، وما قد يطرأ على أفكارهم وتفكيرهم مما لا تطمئن له النفس من سلوك قولي أو عملي حتى يبلغوا مبلغ الرجال سناً وعقلاً.
اليوم تنوعت مصادر التكوين، واتسعت أطر التواصل الاجتماعي، وانفتحت الدنيا كلها بين يدي الأبناء (بنين وبنات)؛ ما يقتضي يقظة تامة من الآباء، ومتابعة دؤوبة لسلوكيات أبنائهم، ومن يصاحبون ويجالسون، ومع من يسمرون ويسهرون؛ لأن الأبناء يقضون الساعات الطوال مع أقرانهم أكثر مما يقضونها مع ذويهم؛ فأغلب أوقاتهم خارج المنزل.
المؤسف أنه صاحب هذا الانفتاح المعرفي، والتواصل الاجتماعي المتعددة مصادره، غفلة من الآباء وغيبة؛ فلم يعد الأب ذاك الرجل الذي يسأل ويتابع، يتفقد ويلاحظ، يوجِّه وينصح.. قد تصل حال بعض الأبناء إلى درجة متقدمة من الانحراف الفكري والسلوكي ومع ذلك فالأب آخر من يعلم.
أيها الغافلون النائمون عن أبنائكم، كونوا قريبين منهم، تعرفوا على أحوالهم، مع من يجلسون ويسمرون ويسهرون؟ ما الأفكار والتوجهات الفكرية التي يؤمنون بها وتسيّر سلوكهم؟ الغافل سيندم، وسوف يجد أن لا جدوى من الندم عندما يتبين له انزلاق قدم ابنه وتبنيه لضلالات دعاة جهنم داعش وأخواتها.