عبدالعزيز السماري
عاشت جزيرة العرب في طي النسيان بعد خروج الدولة الإسلامية منها إلى الشمال، ووصلت أثناء فترة حكم الدولة العثمانية إلى العيش داخل الكهف التاريخي، وعاد إنسان الجزيرة بسبب العزلة وثقافة الانغلاق إلى البدائية والتوحش، وكان الخروج من ذلك الظلام أشبه بأسطورة كهف أفلاطون، والتي عبّر من خلالها عن صراع الظلام والخرافة مع النور والمعرفة، وذلك عندما كتب قصة رمزية كانت موضوعاً لآلاف من الدراسات الفلسفية، على الرغم من أن صفحاتها لم تتجاوز الأربع ورقات.
كانت تحكي قصة أناس مسجونين في كهف ومكبلة أرجلهم وأيديهم، وليس أمامهم إلا جدار الكهف، وكانت خلفهم نار مشتعلة، ولا يرون أمامهم إلا ظلال أجسادهم على الجدار، والتي تتحرك أحياناً إذا تحركت ألسنة النار من خلفهم، وبدأت مسيرة الخروج عندما تخلص بعضهم بطريقة ما من الأغلال، ثم قرر مواجهة النور والتعرض إلى ألم المواجهة المباشرة مع وهج اللهيب، والتي تمثّل رمزياً المعرفة، ولم يعد أمامهم إلا خياران، إما أن يعودوا إلى مواجهة الجدار إلى الأبد، مكبلين بالأغلال، أو أن يستمروا في حالة الخروج إلى حيث النور والصراع من أجل الحقيقة المعرفية، وإن كان مؤلماً وقاسياً في كثير الأحيان.
تحكي أسطورة كهف أفلاطون قصتنا مع مسيرة التعليم الحديث، منذ بدأت مسيرة الوطن الموحّد تحت راية التوحيد، وقد كانت مسيرة مليئة بالمواجهات القاسية مع التيارات التي ترفض التغيير، ووصلت معارضتها إلى حد تحريم تعليم العلوم النظرية كالكيمياء والفيزياء والرياضيات في المدارس، لكن إصرار القيادات على مرور العقود على الخروج من الحالة الكهفية أوصلنا إلى مرحلة متقدمة نسبياً عند مقارنتها بالبدايات، وما زالت التعليمات العليا تؤكّد على نهج الاستمرار في سفر الخروج إلى حيث النور المعرفي، من خلال دعم التعليم العالي المتخصص والاستمرار في برامج الابتعاث، والذي سيعيد إلى جزيرة العرب دورها المفقود منذ خروج الحضارة منها إلى الشمال.
تعود محاولات البعض إلى إيقاف الابتعاث وإعادة المجتمع إلى الحالة الكهفية إلى مصالح ومنافع فئوية، فالمرجعيات التي كانت تقدم الاستشارات في الجهالة والخرافة والأساطير، ستفقد الشيء الكثير من مصالحها وقيمتها وسلطتها في المجتمع، والملاحظ أنهم فقدوا كثيراً من نفوذهم خلال العقدين الماضيين بعد انتشار الجامعات والمستشفيات ودخول وسائل المعرفة إلى المجتمع، وكان الخطأ في تلك الحقبة أنهم حاولوا أن يقدّموا الدين الحنيف داخل الكهف في قالب غير معرفي، ومضاد للعقل، بينما كان الدين الإسلامي في العصور الذهبية للأمة المحرض الأكبر على التعليم ولو كان في الصين.
لدي إيمان راسخ بأن مسيرة التعليم العالي وبرامج الابتعاث النوعية في شقيها المدني والعسكري كانت خلف إنجاز عاصفة الحزم، وأن الاستمرار في هذه المسيرة سيكون خط الدفاع الأول أمام تحديات الوطن في مختلف المجالات، وأن هذه المسيرة يجب أن تكتمل بدعم الأبحاث العلمية ورصد الميزانيات التي تدعم هذا المجال الحيوي، والتي من خلاله سيعرف المجتمع الطريق النموذجي للخروج من الكهف إلى حيث النور المعرفي الذي لا يتخلّى عن الثوابت، ولكن يدفع باتجاه القوة المعرفية والوطنية.
ولدي يقين تام أن أولئك الذي يدفعون في اتجاه الانتحار من خلال تكفير المجتمع ثم تفجيره بالأحزمة الناسفة هم من نسل أولئك الذين رفضوا الخروج من الكهف، واختاروا أن يواجهوا الجدار إلى الأبد، وأنهم بذلك التفجير والتكفير يعتقدون أن بمقدورهم أن يعيدوا الجميع إلى ذلك الكهف، لكنهم لن يستطيعوا بعد أن أدرك المواطن قيمة المعرفة وفوائدها العظيمة بدءاً من اكتشاف الكهرباء إلى الوصول إلى تقنية الخلايا الجذعية، ومروراً بالأنظمة الحديثة في الإدارة والاقتصاد والزراعة والأنظمة الاجتماعية المتطورة.
لهذه الأسباب تقع مسؤولية كبرى على عاتق معالي وزير التعليم الدكتور عزام الدخيل، وهي الاستمرار في نهج القيادات السعودية في ضرورة إكمال المسيرة العملاقة في التعليم العالي المتخصص، والتي ستكون بمثابة النقلة النوعية في تاريخ الوطن، وفي تاريخ الجزيرة العربية، وستُكتب نتائجها في المستقبل بمداد من ذهب على جبين الوطن، وبسببها سيكون الطريق ممهداً للوصول إلى مصاف الدول المتقدمة في زمن قياسي، وربما نحتفل في يوم ما بإغلاق الكهف إلى الأبد بعد إخلائه من آخر العقول المتحجرة والرافضة للتغيير، حفظ الله الوطن من الجهل والتطرف والإرهاب، والله ولي التوفيق