عبدالعزيز السماري
في هذه المقالة أعود لحوار الشيخ المتطور أحمد القطان في مقابلته الأخيرة في برنامج لقاء الجمعة، وسأقتبس أحد عناوينه المثيرة في المقابلة، عن تصريحه أن دولة الكويت احتفلت بإغلاق آخر سجون الرأي. والاختلاف في هذا الشأن أن يتبنى أحد دعاة الصحوة ونجومها مفهوماً عصرياً في غاية التقدم، ويستحق التوقف عنده كثيراً، ويعني أن ثمة تطورات حقيقية حدثت عند كثير منهم، لكنها لم يفصحوا عنها لأسباب لا أفهمها، وربما نرى من بينهم المزيد من التحولات الإيجابية في المستقبل.
سجين الرأي هو الشخصية الموقوفة من دون تهمة جنائية، ولكن بسبب آرائها التي ربما تخالف الخط العام للأفكار العامة للدولة أو المجتمع، وعادة ما يواجه المثقفون تلك المحنة عندما يندفعون خلف مبادئهم التي تدعو لإطلاق الحريات العامة، وفي العقدين الماضيين أصبح الإسلاميون بمختلف توجهاتهم المتشددة وغيرها يشكلون الغالبية في سجون الرأي، وربما أدى ذلك إلى التغيير الحاصل عند بعضهم، ثم تبنيهم مواقف عصرية ومتقدمة، ولا أرى في ذلك خروجاً عن الدين الحنيف، بل تصالحاً معه إذا كنا نؤمن بالفعل أن الدين جاء ليتمم مكارم الأخلاق.
اعتقال أصحاب الآراء وسجنهم من دون تهم جنائية أو دعوتهم لزعزعة استقرار البلاد أو لحمتها الوطنية يفتح الباب لبناء هرم أمني يزداد ضيقاً في الأفق كلما تقدم به الأمر، وتمثل المقولة المشهورة لجوبلز مدير دعاية هتلر «عندما أسمع كلمة مثقف أتحسس مسدسي»، قمة ذلك الهرم، وتعني دخول مرحلة من التضييق الأمني الذي ينتهي به الأمر إلى تدهور العلاقات الاجتماعية من الداخل، ثم بداية الانهيار، وقد ينجح الأمر في إخراس الأفواه لفترة زمنية موقتة، لكنه في واقع الأمر يزيد من حالة العداء داخل الهرم، ويؤدي إلى حدوث تصدعات في البناء المتكامل الذي تم بناؤه خلال العقود بالهاجس الأمني.
تهمة الجناية في الرأي تكون عندما يصاحب الرأي تحريضاً جنائياً، أو زعزعة لأمن البلاد واستقرارها بشكل جلي وعلى سبيل المثال أن يكون الرأي فيه دعوة للقتال والحرب أو الفرقة، أو أن يكون رأيه يحمل حكماً قضائياً ضد الآخر مثل التكفير أو التخوين، التي تعني إهدار الدم، وبالتالي تتجاوز مساحة الرأي إلى منطقة الجناية، ويكون للقضاء كلمته في ذلك، لكن عندما يُسجن إنسان لرأيه الخالي من الدعوة لإهدار الدم أو زعزعة الاستقرار، فإن السجان من دون أن يعلم يخلِّد آراء المسجون ويمجدها، وبالتالي يفتح مساحة للتعاطف مع صاحب الرأي، ويجعل منها شعاراً للأجيال القادمة، لذلك يجب التفريق بين الرأي المجرد وبين الدعوة للخروج والاقتتال.
تعد العراق وسوريا وليبيا أشهر أنظمة أمنية في العصر العربي الراهن، فقد كان الأمن السياسي في تلك الدول يقوم على سجن أو تصفية أصحاب الرأي المخالف، وقد ازدادت حالة الهاجس الأمني إلى مرحلة متقدمة، وفي نهاية الأمر تم اختزال شخصية المثقف والمؤهل لكتابة الروايات والقصص والكتب والنظريات في الزعيم، وبسبب تلك الرؤية الضيقة جداً انهار البناء الأمني في تلك الدول، وبدأت مطاردة الزعماء من أجل الانتقام من أفعالهم المشينة في حق مجتمعاتهم، ومن هاجسهم الأمني الذي لم يتردد في أن يصوب مسدسه في اتجاه من يخالفونه الرأي.
محاولة بناء نظام يقوم على فكرة الأمن فقط يشبه كثيراً من يحاول بناء هرم من الرمل، الذي وإن ظهر من الخارج متماسكاً، لكنه هشٌ من الداخل، وقد يسقط في أي لحظة، وتبدأ عادة مرحلة الانهيارات الجزئية في هرم الرمل عند بلوغ مرحلة محددة من التماسك، ثم تتهاوى بقية الذرات، وتضيع في مهب الريح، كذلك هو البناء الهرمي القائم على نظرية الأمن فقط، يظهر من الخارج مدججاً بالعتاد، لكنه هش من الداخل، لأن أحكام الاتهام جاهزة، وقد تطال مكوناته الأساسية في أي وقت بسبب الهاجس الأمني المتضخم، وفي لحظة من أوج تماسكه ينهار من دون مقدمات.
لذلك عندما يمجد رمز إسلام سياسي سابق في وزن الشيخ أحمد القطان إغلاق آخر معاقل سجون الرأي في وطنه، فاعلم أن ثمة تغييراً كبيراً قد حدث في الفكر الذي كان يدعو للاستبداد بالرأي، وأن تحول بعض الرموز التي كانت مسيسة بالفكر الدوغمائي إلى ذهنية التعايش المدني الذي يؤمن بالحرية والتعددية أصبح قريباً، وأن ما يحدث من انتحار سياسي عندما يطلق عليه بالجهاديين أو الإرهابيين هو إرهاصات الانتقال من مرحلة إلى أخرى في عالمنا المشتعل بالفتن والقلاقل، وبعد إغلاق آخر سجون الرأي تنتهي عادة آخر دعاوى الكيد والتحريض التي تنتشر بين دعاة الأحادية من كل جانب، ثم تبدأ مرحلة البناء الحضاري الحقيقي، والله على ما أقول شهيد.