فوزية الجار الله
هذا الصباح كان مختلفاً..
ثمة ما تفتقده وتلوب خفقاتها بحثاً عنه حتى شارفت، بل كادت تلامس حافة اليأس..
هذا الصباح طافت المنزل بأكمله بحثاً عنها.. هما شقيقتان، توأمان، هما واحدة في اثنتين أو اثنتين في واحدة، لا يهم.. الأهم أن ثمة فراغاً شاحباً لا بد من ملئه بعد هذا البحث المضني..
لا يزال البحث جارياً ما بين الأدوار العليا والسفلى، ما بين الغرف الصغرى والكبرى ما بين السلالم الأمامية الظاهرة والخلفية المتوارية، كان صوت التلفاز عالياً والغرفة فارغة، اضطرت لإخماد الصوت كي ترهف السمع أكثر.. واصلت البحث، وجدتها هناك ساكنة متألمة يائسة، تناولت يدها بلطف وهدوء، قاومت قليلاً، شدتها أكثر، أشارت إلى هناك حيث المكتبة، قدمت إليها كتاباً ثم آخر، كانت تنظر بلا مبالاة كمن يتساءل: وماذا بعد؟!
تناولت أكثر من كتاب، قدمت الأول، الثاني ثم الثالث.. آه ها هو ذا!
كانت تعلم جيداً أنها أحبته يوماً، واستغرقت ما بين دفتيه (وأجمل الحب أن تعشق كتاباً)..
اقرئي.. تأملي.. عودي إلى الإبحار مع الكلمات، ستجدين عندها الخلاص، الحب والأمان والسلوى، شرعت في التأمل والمطالعة، الكلمة تشد الأخرى.. السطر يحمل أبواباً تأخذها إلى غابات، مروج وبساتين، أشجار ملونة وحدائق معلقة ساحرة، تتذكر جيداً بأنها بدأت، لكنها الآن تدلف إلى عالم سحري مضيء، ما بين الأرض والسماء، نجوم وغيوم وكلمات تتماوج أمام عينيها ترى من خلالها زرقة البحر وشفافية اللآلئ، قسوة الموج أحياناً ونعومة «اللافندر» غالباً أو على الأصح دائماً.. هي روحها إذن تسمو إلى أعلى كلما استغرقت في القراءة.
** صباح الاثنين الماضي كان عذباً ومختلفاً فقد صافحتنا ساعاته الأولى بمطر فياض أشرقت أنواره حولنا هكذا بلا موعد أو إنذار مسبق تماماً مثلما صافحني عنوان لافت جميل بلا موعد «ألبرتو مانغويل مواطن عالمي والمهنة قارئ».
يقول ألبرتو إنه تعلم القراءة وهو في الخامسة من عمره، وقد كان هذا أهم حدث في حياته ثم يقول: (وبعد سبعين عامًا أتذكر بوضوح كيف أثرى حياتي هذا السحر: ترجمة كلمات الكتب إلى صور، كاسرًا حواجز الزمن والمكان وسامحًا لي أن أسافر مع القبطان نيمو في رحلة بحرية تصل إلى عشرين ألف فرسخ، وأن أحارب مع دي أرتجنان وأثوس وبورتوس وأراميس ضد المؤامرات التي تهدد الملكة في زمن ريتشيلو الباذخ، أو الزحف في كوامن باريس، متحولاً إلى جين فالين، بجسد ماريو الدائخ على عاتقه..).
ويقول أيضاً: (إن الكتاب يصبح كتابًا آخر في كل مرّةٍ نعيد فيها قراءته. فأليس الأولى من أيام الطفولة كانت تعني لي رحلة، مثل الأوديسة أو بونوكيو. ثم جاءت بعد ذلك أليس المراهِقة فعلمتُ حقّ العلم ما عانت منه عندما قدّم إليها أرنب مارس خمرًا علمًا بأن المائدة لم يكن عليها خمر».