فوزية الجار الله
منذ زمن ليس بالقصير ونحن نعيش حروباً مختلفة في وطننا العربي لعل حرب الخليج لم تكن الأولى لكنها كانت الأكثر وضوحاً وشراسة في رأي الكثير إن لم يكن الأغلبية ممن عايشها في ذلك الحين.
لكل حرب مهما كانت عادلة ضحاياها، دائماً يدفع الإنسان البسيط الضعيف ثمن الحروب والصراعات التي لا ذنب له في بدئها وانتهائها ولم يخطر بذهن أحد من أطرافها السياسية يوماً أن يستأذنه أو يطلب رأيه، ذلك الإنسان البسيط الذي يسعى للقمة العيش ولا يريد سوى أن يعيش بأمان مع أبنائه وعائلته تحت سقف بيت يحميه، في هذا السياق خطرت في ذاكرتي رواية (رجالٌ في الشمس) لغسان كنفاني:
(«رجال في الشمس»، هي الصراخ الشرعي المفقود، إنها الصوت الفلسطيني الذي ضاع طويلاً في خيام التشرد، والذي يختنق داخل عربة يقودها خصيّ هُزمَ مرة أولى وسيقود الجميع إلى الموت، وهي كرواية لا تدعي التعبير عن الواقع الفلسطيني المعاش في علاقاته المتشابكة، إنها إطار رمزي لعلاقات متعددة تتمحور حول الموت الفلسطيني وحول ضرورة الخروج منه باتجاه اكتشاف الفعل التاريخي أو البحث عن هذا الفعل..)
هذا بعض ما كتب في الغلاف الأخير للرواية اللافتة حينها حيث وجدت الكثير من الأصداء لما تحمله من رمزية عميقة للقهر والعذاب ومن ثم الموت حسرة وبصمت.
الرواية تحكي قصة ثلاثة رجال فلسطينيين وجدوا أنفسهم فجأة بلا وطن بعد أن تم احتلاله من قبل الصهاينة، أحدهم كهل والآخر شاب والثالث في مطلع الصبا، لكل منهم حكاية لكن يجمعهم هدف واحد، كلهم يبحثون عن الرزق في عالم صاخب شرس وفي ظل ظروف شديدة القسوة، يصادفون رجلاً يقود سيارة تحمل صهريجاً اسمه أبو الخيزران الذي يعرض عليهم تهريبهم إلى الكويت عبر الصحراء الشاسعة خلف البصرة، يقنعهم بأنه قد اعتاد نقل الماء في الصهريج وسوف ينقلهم بأمان هذه المرة بدلاً من الماء..!
حينما يصلون إلى نقطة الحدود يدخلهم أبو الخيزران في الصهريج والشمس كانت حينها تجلد الصحراء بسياط الموت، هنا يتأخر قليلاً حيث أخذ بعض رجال الأمن يصرون على ممازحته والحديث معه حول شؤون النساء التي يفتقدها بسبب وضعه الخاص..
يعود الرجل صاحب الصهريج إليهم بعد فوات الأوان حيث يجدهم قد ماتوا جميعاً داخل الصهريج المعدني بسبب شدة لهيب الشمس واختناقهم داخل الصهريج الذي اكتشفوا أنه كان صدئاً من الداخل مما يشير إلى أنه لم يستخدم للماء منذ أشهر!
يكمل أبو الخيزران الجريمة التي لم تكن مقصودة بأن يتجه بهم إلى الصحراء لدفن جثثهم ليضيعوا مع العشرات من أمثالهم الذين غيبتهم هذه الصحراء لأسباب شتى، في لحظة قيامه بدفنهم وقد شعر بوخز الضمير يخطر في ذهنه فكرة كانت غائبة: لماذا لم يدقوا الجدار لطلب النجدة؟ لماذا لم يدقوا الجدار؟ يتردد صدى هذه العبارة في الصحراء؟
تم إعداد فيلم من هذه الرواية بعنوان «المخدوعون».
** (كلهم يتحدثون عن الطريق، يقولون: تجد نفسك على الطريق وهم لا يعرفون من الطريق إلا لونها الأسود وأرصفتها).