عبد الله محمد بن رداس
أبيات الشعر التالية اخترناها من قصيدة للشاعر الجاهلي لقيط بن يعمر الأيادي قالها لتحذير قومه وتنبيههم لما يراد بهم من شر وكيد، وما يحيق بهم من خطر, فقد كان لقيط كاتباً في ديوان كسرى ملك فارس عندما كانت لفارس السلطة والسيطرة على العراق قبل الفتح الإسلامي وكانت فارس في ذلك الحين في عنفوان مجدها وأوج قوتها، فعرف لقيط بحكم عمله في الديوان أن كسرى يكيد لأياد (قوم لقيط) ويعد العدة لغزوهم في عقر دارهم لإذلالهم وإخضاعهم.
فجاشت نفس لقيط وأبت عليه نخوته العربية وعصبيته لقومه أياد إلا أن ينبههم إلى الخطر، ويحذّرهم من المكروه قبل وقوعه، وينعي عليهم ما هم فيه من غفلة عن الأعداء وانصراف إلى بلهنية الحياة ورخاء العيش وتنمية موارد الثروة دون الأخذ بأسباب القوة والمنعة لرد غائلة العدو الطامع الذي إن ظفر بهم وظهر عليهم لضعفهم وتفرّقهم فلن تغني عنهم أموالهم شيئاً وتصبح معهم غنيمة للأعداء, فأنشأ لقيط هذه القصيدة البالغة التأثير أنفذها إلى قومه.
لقد كان هذا منذ ما لا يقل عن أربعة عشر قرناً ونيفاً وهي حقبة طويلة من الدهر، ومن العجب أن تلك الحال التي كانت عليها أياد ووصفها لقيط وحذّر منها قومه تشبه من كل الوجوه حال الأمة العربية الآن، التي يتهددها العدو الفارسي ويهدّد بغزوها في عقر دارها، ويحاول أن ينتزع منها أشرف أمصارها وأغلى أقطارها، وهي غافلة لاهية، وفي شغل شاغل بتنمية موارد عيشها والانصراف إلى حياة الترف التي يحياها كثير منها دون أن تأخذ الأهبة وتستعد لطرد الأعداء الغزاة الذين يتربصون بها الدوائر. وقد حذَّر قادة بلادنا إخوانهم العرب طوال عقدين من هذا العدو الكامن خلف مياهنا الشرقية الذي ما فتئ يفخر قادته ومعمموه باحتلالهم لأربع عواصم عربية وأن الطريق أضحت سالكة إلى غيرها كما كانوا يتوهمون. صرخة لقيط بن أياد لم تزل حيّة في قلوب وعقول قادة هذا البلاد وقد أعادوا الحياة للنخوة العربية في أبهى صورها وأسمى معانيها.
راجين من الآباء الفضلاء والأساتذة الأجلاء أن يلقنوها أبناءهم وتلامذتهم ليستظهروها ويتفهموا معانيها ويأخذوا الحكمة من فم هذا الشاعر العربي، والعبرة من ماضيهم لحاضرهم، ومن حاضرهم لمستقبلهم بعد أن اتسع نطاق الكارثة؛ فهل من معتبر، وهل من مدكر؟
يا أيها الراكب المزجي مطيته
إلى الجزيرة، مرتاداً ومنتجعا
أبلغ أياداً وخلل في سراتهم
أني أرى الرأي، إن لم أعص، قد نصعا
يا لهف نفسي، إن كانت أموركم
شتى، وأحكم أمر الناس فاجتمعا
أما تخافون قوماً لا أبا لكم
أمسوا إليكم كأمثال الدبا سرعا
أبناء قوم تأووكم على حنقٍ
لا يشعرون أضر الله أم نفعا
لو أن جمعهم راموا بهدته
شم الشماريخ من ثهلان لا نصدعا
في كل يوم يسنون الحراب لكم
لا يهجعون، إذا ما غافل هجعا
خزر عيونهم، كأن لحظهم
حريق غاب ترى منه السنا قطعا
لا الحرث يشغلهم، بل لا يرون لهم
من دون بيضتكم، رياً ولا شبعا
وأنتم تحرثون الأرض عن سفه
في كل معتمل تبغون مزدرعا
وتلبسون ثياب الأمن ضافيةً
لا تفزعون، وهذا الليث قد جمعا
ما لي أراكم نياماً في بلهنية
وقد ترون شهاب الحرب قد سطعا
فاشفوا غليلي برأي منكم حصفٍ
يضحي فؤادي له ريان قد نقعا
ولا تكونوا كمن قد بات مكتنعاً
إذا يقال له افرج عمة كنعا
يسعى ويحسب أن المال مخلده
إذا استفاد طريفاً زاده طمعا
فاقنوا جيادكم، واحموا ذماركم،
واستشعروا الصبر، لا تستشعروا الجزعا
ولا يدع بعضكم بعضاً لنائبة
كما تركتم بأعلى بيشة النخعا
صونوا جيادكم، واجلوا سيوفكم،
وحددوا للقسي النبل والشرعا
واشروا تلادكم، من حرز أنفسكم
وحرز أهليكم، لا تهلكوا هلعا
لا تلهكم إبل، ليست لكم إبلاً
إن العدو يعظم منكم قرعا
لا تثمروا المال للأعداء إنهم
إن يظهروا، يحتووكم والبلاد معا
هيهات لا مال من زرع ولا إبل
يرجى لغابركم إن أنفكم جدعا
والله ما انفكت الأموال مذ أبد
لأهلها، إن أصيبوا مرة، تبعا
يا قوم إن لكم من إرث أولكم
مجداً وأشفقت أن يفنى وينقطعا
ماذا يرد عليكم عز أولكم
إن ضاع آخره، أو ذلّ واتضعا
يا قوم لا تأمنوا، إن كنتم غيراً
على نسائكم، كسرى وما جمعا
يا قوم بيضتكم لا تفجعن بها
إني أخاف عليها الأزلم الجذعا
هو الجلاء الذي يجتث أصلكم
فمن رأى مثل ذا رأياً ومن سمعا
قوموا قياماً على أمشاط أرجلكم
ثم افزعوا، قد ينال الأمر من فزعا
وقلدوا أمركم، لله دركم
رحب الذراع بأمر الحرب مضطلعا
لا مترفا إن رخاء العيش ساعده
ولا إذا عض مكروه به خشعا
لا يطعم النوم إلا ريث يبعثه
هم يكاد سناه يقصم الضلعا
مشرد النوم، تعنيه أموركم
يروم منها إلى الأعداء مطلعا
ما انفك يحلب هذا الدهر أشطره
يكون متبعاً طوراً ومتبعا
حتى استمرت على شزر مريرته
مستحكم الرأي لا قحماً ولا ضرعا
وليس يشغله مال يثمره
عنكم ولا ولد يبغي له الرفعا
لقد بذلت لكم نصحي بلا دخل
فاستيقظوا إن خير العلم ما نفعا
هذا كتابي إليكم، والنذير لكم
لمن رأى رأيه منكم ومن سمعا