كل ما مضى من هذا الغزو الفكري المتتابع للعرب - في الخطط الشعوبية، والأهداف الاستشراقية، والاستعمارية، والصهيونية، ثم الماركسية - كان لا بد أن ينتهي إلى تعطيل واستبعاد قيام الوحدة العربية، وإلى حصار المبدأ القومي ومحاربته باسم الدين، والعمل المستمر على طمس معناه الواضح في القرآن الكريم, وتأكيدا لهذا الحصار كان لا بد أن تتناول أكثر التفاسير القرآنية اطلاق المعنى العالمي للإسلام، وتجريده بالنسبة للعرب من أي ارتباط حقيقي ولازم ومشروع بأرضهم العربية، ولغتهم ودينهم,.
وهكذا في مرحلة ركود الثقافة العربية، وعلى الرغم من النشاط السياسي في الاتجاه القومي السليم -الذي فرضته المواجهة الواقعية مع اسرائيل وحلفائها - وصلنا إلى هذا الموقف الغريب من قيام جميع الأمم الإسلامية غير العربية بتأكيد وجودها القومي على أساس من لغتها وثقافتها وتاريخها، بينما يواجه العرب، بسبب ليس مجهولا -فيما ذكرناه من قبل - تياراً عاما باسم الدين يرى أن قومية العرب حتى ان تأسست على الدين ليست حقاً لهم يبيحه لهم الإسلام، أو يأمرهم به الإسلام، مع أن هذا الحق لم يتحقق للعرب في كماله وجلاله إلا ثمرة أولى لفضل الإسلام، ورسالة الإسلام.
ولم يلبث هذا الشعار المظلوم (القومية العربية) أن تنازعته هذه الأهواء المتضاربة، والتيارات الوافدة، داخل الوطن العربي، فأصبحت هناك (قومية عربية) ينادي بها العلمانيون بالمفهوم الاوروبي، وأصبحت هناك قومية عربية، يتستر وراءها القائلون بالاصلاح على أساس المنهج الماركسي,, بينما يقف الدعاة الى (الأمة الإسلامية) يقذفون بالأحجار كل شعار عربي مرفوع لهذه القومية العربية على أرضها,, حتى وان كانت هي الدعوة الطبيعية والحتمية اليها على أساس الإسلام والدين,.
ونحن لا نهتم بمزاعم القوميين العرب غير الإسلاميين، فالقومية العربية لا يمكن أن توضع في قالب العلمانية الأوروبية، أو الماركسية الشرقية,, ولكن ما هي حجة من يرفضون هدفاً حقيقياً على طريق الإسلام، هو وحدة الأمة العربية على أساس من دينها وايمانها؟,, ان حجتهم هي تفضيل هدف آخر يدعون إليه,, هدف خيالي غير واقعي وهو قيام (أمة اسلامية واحدة) تجمع على أرض واحدة، وبلسان واحد، وتاريخ واحد، شعوباً مثل تركيا وإيران وباكستان، وبنجلاديش، وإندونيسيا والفلبين,, الخ.
ان مثل هذا الهدف الخيالي لا يمكن أن يتحقق مطلقاً بهذه الصورة ذلك أن أقصى ما يمكن التوصل إليه هو إقامة (جامعة الدول العربية) لتربط باسم الإسلام ما أمكن، وعبر لغات مختلفة، وأوطان متباعدة، بين شعوب هذه الدول,, ولكن مثل هذا الهدف العملي نفسه لا يمكن تحقيقه بنجاح ما لم تتوحد الأمة العربية بقوميتها ولغتها ودينها، وتصبح دولة كبيرة على أرض الوطن الأول للدين، ومكان البيت ومنزل الوحي,, فهل هذا الهدف المشروع أو الحيوي للعرب داخل جماعة الدول الإسلامية لا يستحق الاهتمام به، ولا المعاونة عليه,, أو على الأقل لا يستحق السكوت عن معارضته، والتحذير منه، والعمل على تعويقه,,؟,,؟ لماذا ؟,.
نعم لماذا,,؟,, هل تخشى الدول الإسلامية - مثل الاستعمار والصهيونية والماركسية - قيام دولة عربية واحدة لأمة عربية واحدة تبني نظامها ومجتمعها وتقدمها وحياتها على أساس الإسلام؟,, هل هذا معقول؟,, اذن فهل يسر الدول الإسلامية هذه أن ينجح العلمانيون أو الماركسيون في بناء هذه الوحدة العربية لحسابهم,, أو في تمزيقها نهائياً ضد حسابات قوة العرب بالإسلام؟
عناصر التناقض: قد لا يكون هذا الموقف الذي تقفه، أو تحرص عليه بعض الجماعات الإسلامية ضد قيام وحدة الأمة العربية ما يثير الكثير من الغرابة، وبخاصة أن بعض هذه الدول يستنشق في هواء حريته مناهج الاستعمار ويتأثر بثقافته، ويرتبط بأحلافه - ولكن الغريب والمتناقض أن يسترخى لهذا الرأي المعارض للقومية العربية حتى ان كان أساسها الاسلام - بعض علماء الدين العرب في بلادنا,, فإن قالوا حقاً أنهم لا يعارضون الوحدة العربية على اساس الإيمان والإسلام قلنا لهم فلماذا اذن لا تطالبون بتديين القومية العربية، ومن ثم تؤازرون دعوة القومية العربية المؤمنة،و ترفضون الأخرى,,؟
لقد كان يجب، ولا يزال ممكناً أن يكون، تنزه علمائنا المستنيرين عن الوقوع في هذا التناقض الذي أشار إليه عالم تركي مسلم، عاش في سوريا والعراق ومصر وأحب بلاد العرب، وتكلم ووضع الكتب في الدعوة الى القومية العربية,, ان هذا المسلم التركي ساطع الحصري يقول:
لست أرى أي علاقة منطقية بين دعوة علماء المسلمين الى العمل في سبيل الوحدة الإسلامية وبين دعوتهم الى عدم الاشتغال بالوحدة العربية، اذ كيف يجوز لأحد أن يقول إنه يتحتم على علماء المسلمين أن يسعوا لتحقيق الوحدة بين العربي والإيراني والهندي والتركي ولا يجوز لهم أن يشتغلوا بتحقيق الوحدة بين المصري والشامي والعراقي,,؟ كيف يمكن لأحد أن يأمل بتكوين وحدة البلاد الإسلامية التي تتكلم بلغات مختلفة دون تكوين وحدة من البلاد التي تتكلم بلغة واحدة، ولا سيما التي تتكلم بلغة القرآن .
ثم يقول:
اني اعتقد بأن الذين يتجهون بتفكيرهم الى الوحدة التي يتطلبها القرآن - حسب تعبير بعض علماء الدين - لا يستطيعون أن يهملوا الوحدة العربية دون أن يناقضوا أنفسهم، فيترتب عليهم أن يشتغلوا بالوحدة في سبيل الديانة الإسلامية ان لم يكن في سبيل الألفة القومية .
القومية والشريعة: وينسى بعض علماء المسلمين في الوطن العربي أيضاً أهم القضايا التي لا تقوم الوحدة الا بها، سواء أكانت عربية أم إسلامية، وهي أن المستعمر عزل الشريعة الإسلامية في أكثر البلدان العربية عن مجرى القوانين السائدة والحاكمة في الحياة العملية, لقد عزلها في مصر سنة 1883م ولم يستبق منها إلا قانون الأسرة أو الأحوال الشخصية، ولهذا فقد جاء الدستور الدائم بعد كفاح صادق ليفتح الطريق أخيراً لتحرر مصر من الاستعمار التشريعي، من حيث جاء النص في هذا الدستور على أن الشريعة الإسلامية مصدر أساسي للتشريع، ولا شك أن استعادة حتى التقنين بمقتضى الشريعة الإسلامية هو أهم العناصر التي تخلق مناخا ملائما لتأسيس الوحدة العربية بالمفهوم الديني لقيام القومية العربية، وليس بأي مفهوم آخر.
ولا شك أن استعادة الشريعة واحكامها ومقاصدها في صياغة القوانين السائدة هي العامل الأول الذي يحقق تحرير القومية العربية من تأثير المطامع الأوروبية أو الماركسية، هذا التأثير الذي يخرج بها عن مفهومها الصحيح في تاريخ الأمة العربية منذ توحدت أجزاؤها بالإسلام، وعاشت بالقرآن، ومنذ فتحت حدودها وقلبها بالرعاية والاخاء والتساند مع جميع مسلمي العالم.
العروبة والإسلام: كذلك ينبغي أن يتذكر علماؤنا، وأن نتذكر معهم أن التعريب والتعرب كانا طريق انتشار الإسلام, فالعروبة ومقوماتها من اللغة والدين والقرآن والوطن الذي به المسجد الحرام والمسجد الأقصى لم تكن بالدعوة اليها دعوة عنصرية أو عرقية، بل كانت جهاداً سلمياً مشروعاً لنشر علوم الإسلام، وتأصيل حقائق الإسلام، وتمكين أخوة الدين وتوثيق مسئوليات الدفاع عن هذا الوطن العربي، قاعدة الإسلام، وحصنه الأول، ومستقر مشاهده الأولى ومقدساته.
من أجل هذا المعنى في الدين وليس في العصبية العرقية كان النبي عليه الصلاة والسلام يقول: أنا أعربكم، أنا من قريش، واسترضعت في بني بكر بن سعد ,, وكان عمر يقول (العرب مادة الإسلام),, فكيف يكون العرب عرباً في أرض مجزأة، وشعوب متدابرة، لا توحدها هوية ولا قومية، مع توافر جميع المقومات لهذه الهوية والقومية؟
ولقد مرت بالعرب تجربة سابقة تجاه موقفهم من الشعوب الأخرى، فعندما توحدوا في الجزيرة العربية بالإسلام، وعندما خرجوا يجاهدون لتحرير اخوانهم في مصر والشام والعراق من سلطان الروم والفرس جعلوا ما بأيديهم من عطاء الله بالدين والعلم والعدل والرحمة للناس جميعاً دون استعلاء أو فخر، ودون قسوة أو انتقام,, لقد جعلوا ما بأيديهم من الهدى والعلم والقرآن رحمة للناس جميعاً,, فهل كان يعني هذا أنهم كانوا مطالبين من قبل، ومطالبين اليوم بأن يجعلوا وطنهم العربي للناس جميعاً كذلك؟
هل تعني عالمية الإسلام حقاً عالمية الوطن العربي؟,, هل تعني عالمية الإسلام أن يكون لكل شعب من غير العرب، تلقى الاسلام على أيدي العرب - قومية ينتمي اليها، وأرض يدافع عنها، وتبقى الأرض العربية مباحة للجميع، وأهلها وقوف عليها، يمنعهم الحياء مثلاً، أو يمنعهم الدين,, أن يدافعوا عنها؟؟
من قال هذا؟,, ثم ما الذي يجري اليوم على أرض العرب؟,, من هم هؤلاء الذين يحملون وحدهم منذ أكثر من حوالي نصف قرن أعباء الدفاع بأموالهم ودمائهم عن بيت المقدس ضد الغزو الصهيوني، وضد حليف اسرائيل الاستعماري؟ من هم الذين يدافعون اليوم عن أرض العرب,, وعن الطرق الممتدة الى قبلة المسلمين جميعا,, الى المسجد الحرام,, الى مدينة الرسول,, وكلها أهداف يتربص بها العدو؟؟
انهم العرب الذين يحملون وحدهم أعباء هذا الدفاع المتواصل عن أرضهم وعن الإسلام وعن المدن المقدسة التي هي مقدسة عند جميع المسلمين,,, فهل الأفضل في مواجهة العدو المدجج بالسلاح والمدعم بالحلفاء، أن يواجهه العرب شعوبا متفرقة تلعب بها الأهواء، وتضعفها الفرقة، أم أن يواجهوه أمة واحدة، مالكة لإرادتها محتشدة حول أهدافها، قادرة علىاستثمار مواردها الكبيرة لكسب معارك السلم والحرب، حفاظاً على حريتها، وحتى تبقى منارة الإسلام، ولغته وعلومه، مضيئة باتجاه العالم الإسلامي لا تنطفئ ولا تزول؟
ليس هناك إذن ما يثير مخاوف المسلمين في أنحاء المعمورة من نجاح دعوة القومية العربية في تحقيق وحدة العرب، عندما تمضي هذه الوحدة في اتجاهها الصحيح, ليس هناك ما يخشاه أحد - غير الأعداء - من قوة العرب، ووحدة العرب، اذا اتحد العرب ممسكين بدينهم وكتابهم، معربين بلغتهم وحافظين لتاريخهم، وذاكرين قول الله لنبيه في القرآن الكريم: (وإنه لذكر لك ولقومك وسوف تسألون) 44: الزخرف ,, أي ان هذا الدين رسالة يبقى بها ذكرك وذكر قومك العرب، وسوف يسألكم الله عنها قبل أن يسأل غيركم.
ان الإسلام هو الرسالة التي وحد الله بها بين شعوب العرب وقبائلهم، وألّف بها بين قلوبهم وذلك حيث يقول الله: (وألّف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم) 63: الأنفال وحيث يقول: (واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألّف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا) 103: آل عمران .
هذه النعمة بوحدة الأمة العربية على أرضها بالاسلام,, على وطن الدين الأول منذ كانت الرسالات والدعوات والكتب لا يقصرها الله في حكمته ورحمته على العرب,, انه يفيض بها منهم على غيرهم,, انه يعهد اليهم بعد النبوة بعهد النبوة,, لقد جعلهم لذلك أمة وسطا,, وشهداء على الناس بعد الرسول,, وأمرهم أن يقيموا الدين الحق أسوة لغيرهم,, وأن يحفظوا القرآن ليحفظهم,, وليحفظه من شاء من الناس عنهم,, والله من بعد ذلك سيسألهم عنها,, فهل في وسعهم أن يحملوا هذه الأمانة الكبيرة ألا وهم أمة عربية واحدة مؤمنة,, وإلا فكيف يسألون,, ولماذا يسألون,, وعن أي رسالة سوف يسألون؟؟
|