د. حسن بن فهد الهويمل
عندما تلاحقت الأوامر الملكية، في ليلة حُبْلى بكل جميل، كنتُ، ولفيفٌ من الزملاء في معرض الكتاب بـ [القاهرة]، متحلقين بلهف، وشوق أمام شاشات القنوات الفضائية، وهي تلهث وراء الأوامر الملكية المتلاحقة، وتستقرئ مشاعر الناس. كنا لحظتها نتمنى أننا مع المواطنين، لنشاركهم الأفراح.
لقد تم تشكيل [مجلس الوزراء]، وزامن ذلك إعفاءات، وتعيينات، ونقل، وتدوير. استقبلها المواطنون بالتفاؤل الحسن. وأحسوا أنهم على موعد مع إيقاع جديد، لا مكان فيه للاسترخاء، ولا للتردد.
وفي أعقاب هذه القرارات السديدة، تسابق الكتاب للتعبير عن انطباعاتهم المتناغمة، ورصدوا بأمانة نبض الشارع العام، المترع بالثقة، وحسن الظن.
كنت أحدَ أولئك الراصدين، إذ أشرت إلى أن خادم الحرمين الشريفين لن يقدم نفسه لشعبه بالأجنحة القصيرة، ولا بالمناكب الضعيفة.
وثقتنا لن تحملنا على المزيد من التزكية، امتثالاً للأمر الحكيم {فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ}، ذلك أنه أعلم بمن هو أهل للمهمات الجسام.
وولي الأمر بقراراته الحكيمة، يتلمس الخير، ولا يدخر وسعاً في التحري، ولسان حاله يردد [وما توفيقي إلا بالله].
والناصحون يعلمون ألا توفيق إلا بيد الله. ورهاننا ينبعث من خبرتنا. وواجبنا يستدعي الشهادة بما علمنا.
وتخويفنا لحملة المسؤوليات من باب الحث على محاسبة النفس. فَعِنْدما يكون جُهد المسؤول ضئيلاً مثلما يهب اللئام، يكون عرضة للمساءلة، والحساب العسير، وقد لا يُسْأل عما يفعل، وإنما يلف، كما يلف الثوب الخلق، ثم يلقى به في مزبلة التاريخ.
وكم من مسؤول حاول أن يخرق الأرض، أو يبلغ الجبال طولاً، امتدت إليه يد الرقيب، وهو سادر في أضواء مسؤوليته، غارق في زيوف وجاهته، فأخذته، ونبذته نبذ النواة.
ما نوده، ونحن نرى المعوِّقين للمشاريع، المعطلين للخدمات، المُرْبِكين لمسيرة التنمية ويَدُ الرقيب تتخطفهم، أن يكون مَنْ سواهم مُدَّكِراً، تغنيه الآيات، والنذر عن عصف ذهني كالقصف.
نريد عقلاء يوعظون بغيرهم، ولا نريد مغفلين، لا يوعظون بأنفسهم. لقد مللنا الإهمال، وضقنا ذرعاً بالمماطلة، وزكمت أنوفنا روائح الفساد. وهل بعد تشكيل الهيئة الوطنية لمكافحته من شاهد؟
وليس شرطاً أن يكون كل إعفاء مرتبطاً بفساد، فالتغيير مطلب، ولكل زمان دولة ورجال، وكم من مُعفى تمنينا عودته.
إن وطناً فجر الله له كنوز الأرض، وغمر أرجاءه بالأمن، والاستقرار، ووفر لأهله كل متطلبات الحياة السعيدة، وهيأ له ولاية تلقت الأمانة بحقها، لجدير بأن يكون المسؤول التنفيذي فيه على مستوى الإمكانات: أداءً، وأمانة، واستشرافاً للمستقبل، ومبادرة للمسؤوليات كافة، واستباقاً لفك الاختناقات. يبادر المشكلات، ولا ينتظرها حتى توقضه.
ومن لم يجد في نفسه الكفاءة، والأهلية، فإن من الخير له أن يترجل طائعاً مختاراً، وإن لم يفعل فإن يد الرقيب أقرب إليه من حبل الوريد.
وكل مسؤول دون مستوى مسووليته ذاهب لا محالة، فليكن ذهابه بيده، لا بيد عمرو. انتهى زمن المجاملات، والتستر على المقصرين، منذ أن أحست الدولة بأن وقوعات الفساد تحولت إلى ظواهر، ومن ثم أنشأت الهيئة. إننا في زمن [سلمان بن عبدالعزيز] وكفى.
[سلمان] الذي عاصرَ ستة ملوك، بوعي تام، خبر دق أعمالهم، وجلّه. وشاركهم في السراء، والضراء، وحين البأس، وظاهرهم في اتخاذ القرارات، وتحمل معهم المسؤوليات كافة.
وعايش الصحافة، وخالط الصحفيين، وعرف دخائلهم، واندفاعاتهم، وعواطفهم، وقرأ ما تحت السطور.
رجل بهذه الإمكانات وبتلك الخبرات، والتجارب، لا يكون خِبًّا، ولا يخدعه الخب. إنه بهذه القرارات المتلاحقة يستثمر خبراته المتنوعة، ويضع المسؤولين تحت المجهر، فلا يند عنه شيء، ولا يموَّه عليه شيء، وعلى المواطن أن يبارك، ويشارك، لكيلا يجد المتلاعبون ملاذاً يتقون به قصف التصحيح.
لقد خبر المحق، والمبطل. وعرف الجاد، والهازل. وفرق بين الحركات البناءة، والمراوغات الاستعراضية.
فكم من مسؤول بدت سوءته، ثم انطلق يَخْصِفُ عليها من ورق المخادعات، والأعذار، ولكنه ضُبط متلبساً بتقصيره، أو خطئه، أو جهله، قبل أن يندس تحت هشيم التمويه، ودفاع المعذرين.
وليس ينفع في المسؤول شيء، إذا لم تردعه القرارات المباشرة، قرارات الإعفاء، والمساءلة، وتذمر المواطنين.
[سلمان] لن يؤخر عمل اليوم إلى الغد، ولن يسمح لأي مسؤول أن يوغر صدور المواطنين بإهماله، أو بتباطئه، أو بـ[بيروقراطيته] المعقدة. بحيث تظل المعاملة تلهث بين المكاتب شهراً بعد شهر، وعاماً بعد عام.
وعلى المسؤول أن يكون ابن من شاء، شريطة أن يخلص في عمله، وأن يعيش حضوراً فاعلاً، لا يحتمي بعلاقات، ولا يتقوى بصداقات، ولا يستأثر بشللية، ولا يحاول المخادعة، ولا يتعمد تزييف الحقائق.
من قبل لم يكن نبض الشارع، ولا تأوهات الرأي العام، ولا كلام الجرائد، ولا لذعات المواقع محفزاً للمسؤول، ولا مثيراً لانتباهه.
وكم من نداء انطلق ملء أفواه المتأذين من التقصير، والأخطاء، لامس أذآن المسؤولين، ولكنه لم يلامس نخوة المخلصين الجادين.
اليوم سيكون للنبض، والتأوه، والكلام قيمة. لأن ذلك كله سيأخده [سلمان] مأخذ الجد.
وكلمة المواطن لن تسقط على الأرض، لأنها ستلامس نخوة [سلمان]، وستجد استجابة فورية، تضع المقصر أمام مسؤوليته.
في مناسبات مضت، قلتُ، وأنا أوجه الكلام لـ [الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد]:- لستم بحاجة إلى عيون تتفحص، ولا لمخبرين يرصدون. الصحافة، والمواقع توفر لكم كل ما تريدون، تابعوا ما يُكتب، وواجهوا به المسؤول، فإن كان ما يقال صحيحاً فحاسبوه، وإن لم يكن صحيحاً، فاستعدوا السلطات الحقوقية على الكاتب المفتري.
بهذا تقطعون دابر التلاعب، والاتهام، وتحفظون المال العام، وحقوق المسؤول. فالمسؤول يعرف أن وراء الكلام من لا يدعه يسقط على الأرض، ثم تذروه الرياح، وأن وراء الأعراض من لا يدعها تدنس.
واليوم، وبعد أن تغيرت الأحوال، وتبدلت الأوضاع، يجب أن تمارس [الهيئة] مهماتها، وأن تبادر الكلمات التي توجه إلى المسؤولين، وتصل بها إلى منتهاها.
فالملك [سلمان] لا يريد للمسؤول أن يكون عقبة في طريق الأداء السليم، وفي الوقت نفسه، لا يريد لسمعة الموظف أن تكون مبذولة للمتسرعين، الذين لا يستبرئون لعرضٍ، ولا لدين. وهو مع المخلصين الذين يتسمون بالحس الوطني، ويكونون عيوناً له، يتعقبون المقصرين، والمتلاعبين، والعابثين، والمتهافتين على لُعاعات الحياة. فلا مكان للفساد، ولا مكان للإهمال، ولا مكان لاستغلال السلطة، ولا مكان أيضاً للتهاون في النيل الكاذب من المخلصين.
إن تلاحق الأوامر الملكية مؤشر رؤية، تضع للزمن، وللجهد، وللمال قيمتها. ومن سَوَّف، أو ماطل، أو فوت على مرفقه العمل الجاد، والتقدير الدقيق، والتدبير المسدد، فمصيره مصير من سبقه.
ولي الأمر لا يُحَصِّل ما في الصدور، ولا يَبْتلِي السرائر. وتوسمه للكفاءة، قد لا يكون في مكانه، ومنتهى قدرته أن يضع المسؤول على المحك، وتحت التجربة، وأن يرصد أداءه، ويقوَّم إنجازه، فإن كان في مستوى المسؤولية دعمه، وشد أزره، ومهد طريقه. وإن لم يكن على توقعه، بادره قبل أن يضيع بإدارته السيئة الجهدُ، والوقتُ، والمالُ، وسمعةُ المرفق. تلك هي المهمة المطلوبة من ولي الأمر.
نحن لا نُحمِّل الدولة مسؤولية إخفاق بعض المسؤولين، لأن التجربة هي التي تكشف الحقائق، وهي لا تسبق الاختيار، ومن ثم فالمواطن وحده الذي يكشف الزيوف، إنه المرايا المقعرة، والمحدبة. ومتى شارك في الخطيئة، بحيث أبطأ في النقد، أو تحامل دون تثبت، أسهم في ضياع المصلحة العامة.
وإذ نحمل على المسؤول المقصر، فإن المصداقية تستدعي مواجهة المواطن المواطيء على الخطيئة، أو المتحامل المفتري للكذب على المسؤول.
المجتمع المدني لا يخلو من كل الفئات، ولسنا ممن يدعي الملائكية، نحن بشر، لنا وعلينا، والخيرية تتمثل في تلافي الخطأ، وعدم الإصرار عليه.
لقد مللنا المماطلات، والاختناقات، والإهمال. وليس من المعقول، ولا المقبول أن يشكو المرضى من نقص الخدمات، أو شُحِّ الأسَّرة، وأن يتذمر أصحاب القضايا في المحاكم من طول المرافعات. وأن يستاء المواطن من إبطاء أصحاب المشاريع في التنفيذ.
وخجلنا من ضرب الأمثال بتفوق الجار الخليجي في مرافقه كافة، ونحن لا نقل عنه في الإنفاق، والإخلاص، والإمكانات.
فلنستمع إلى [سلمان] حين يقول، ولنتعظ بما يفعل.