د. فوزية البكر
أثار موضوع الأسبوع الماضي حول الظاهرة المقلقة في نظامنا التعليمي، وهي غياب الطلاب عن مدارسهم قبل وبعد الإجازات، أو عند هطول مطر، أو لأي سبب بسيط، ردود فعل كبيرة بين القراء على منصة التواصل الاجتماعي تويتر. فمثلاً الأستاذان المهيدب والحسيكي يريان أن الوضع أصبح ظاهرة مقلقة جداً؛ وتحتاج إلى علاج من الوزارة، لكن الحسيكي يضيف بأن المعلمين والمعلمات هم من يحببون الغياب للطلاب،
في حين يري الدريس أن العلة ليست في المعلم بل في نظام التعليم الذي جعل النجاح سهلاً للجميع، لكن كلاً من المعلمي والمدخلي يريان أن المعلم ليس مسؤولاً بل هي ثقافة مجتمع؛ وتحتاج إلى دراسة عميقة مكثفة. وترى هنادي أن الأهل لا يكترثون للدوام المدرسي؛ فتنتقل البرمجة إلى أولادهم؛ فيتعلمون التسيب.
هذه عينة من الآراء حول مشكلة تربوية حيرت المجتمع، لكن الجميع يتفق على أنها بحاجة إلى دراسة عميقة ومكثفة، وذلك ينطبق أيضا على الكثير من الظواهر التربوية أو الاجتماعية، مثل ظاهرة العنف الأسري التي تطلُّ برأسها، وتجد التصريحات بأنه رغم وجود مراكز بحثية وأقسام وكراسي للبحث وجمعيات وهيئات لحقوق الإنسان إلا أنه لا توجد دراسات عميقة تساعد المجتمع على مواجهة هذه الظاهرة أو غيرها. وهنا نأتي إلى مشكلة البحث العلمي في مؤسساتنا الأكاديمية، وتحديداً في العلوم الإنسانية؛ لنطرح سؤالاً كبيراً بحجم هذه المشكلات، هو: ما درجة فاعلية الأقسام الجامعية وبرامج الماجستير والدكتوراه وكراسي البحث ومراكز البحوث في إجراء الدراسات المعمقة لمثل هذه المشكلات؟
في رأيي، إن أهم مشكلة في هذا الإطار هي أن الكثير من البحوث في مجال العلوم الإنسانية، وتحديداً في الحقل التربوي، تُنفَّذ ليس لفهم المشكلة فعلاً وزيادة المعرفة الإنسانية بها قدر ما تُنفذ للحصول على درجة علمية، كالماجستير أو الدكتوراه، أو للترقية العلمية. ربما يعترض أحد ويقول: نعم، هذا حق مشروع؛ فكلنا نسعى للترقية والحصول على الدرجات، لكن لماذا يكون هناك تعارض أساساً بين تحقيق هدف شخصي وفي الوقت ذاته تطوير المعرفة الإنسانية في الموضوع المدروس لفهمه بشكل أكبر، وتقديم الحلول؟ التعارض يأتي من أن الكثير من الباحثين في المجالات الإنسانية لا تعنيهم فكرة تطوير المعرفة الإنسانية في حقولهم قدر ما يعنيهم تحقيق الترقي الوظيفي والحصول على الامتيازات المرافقة لهذا الترقي، ومن ثم فهم لا يعنون باختيار المشكلات الحقيقية التي يعانيها المجتمع مثلاً، كما لا يكلفون أنفسهم باختيار الطرق والأساليب العلمية التي يمكن أن تؤدي إلى فهم المشكلة المدروسة، واقتراح الحلول؛ لذا تجد أن أكثر من 90 % منهم طلاباً وأساتذة يلجؤون إلى اختيار موضوعات قُتلت بحثاً حتى يقوموا بتقليدها، كما يعمدون إلى اختيار أساليب وأدوات بحثية بسيطة، وفي الغالب الاستبانة لعينات سهلة أمامهم، مثل أساتذة الجامعة أو طلابها، ومن ثم يقومون بتحليلها وكتابة توصيات لا يطلع عليها أحد غيرهم، أو إذا كانوا طلاب دكتوراه يقومون بكتابة مقترحات للحل لا تُجرّب ولا تُختبر، وهي حبر على ورق، في حين يصبح طلاب الدكتوراه في الجامعات العالمية خبراء في المجال الذي بحثوا فيه؛ لما بذلوه من جهد ووقت في دراسة مشكلاتهم البحثية التي يسافرون إلى كل بقاع الأرض من أجل حل ألغازها، وقد يعمدون إلى تعلم لغة البلد الذي يدرسونه إذا كان في غير بلدانهم إيماناً منهم بقيمة العلم في حل المشكلات الإنسانية؛ لذا لا تبقى بحوثهم على الرفوف كما يحدث مع بحوثنا ورسائل الماجستير والدكتوراه التي تنتجها جامعاتنا، وهي بالآلاف، ولا يستفيد منها أحد؛ لأنها ببساطة لا تكشف الأسباب الحقيقية للمشكلات، كما لم يتم استخدام أساليب بحثية جادة تكشف لنا سر المشكلة.
خذ مثلاً بدراسة الفرنسي ستيفان لاكروا (زمن الصحوة: الحركات الإسلامية المعاصرة في السعودية)؛ إذ أمضي الباحث من 2003 حتى 2007 فيها، وزار خلالها عدداً كبيراً من الدول العربية، مثل السعودية والكويت والإمارات ومصر وبريطانيا؛ ليجمع أكبر عينة ممكنة من المؤلفات، كما طاف على المكتبات كافة، خاصة الإسلامية في هذه الدول، وأجرى عشرات المقابلات، وهو اليوم يُعد مرجعاً رئيساً لأي دارس للجماعات الإسلامية في العالم الإسلامي. وهذا هو ما نعنيه بالبحث العلمي. وتشابهه في ذلك دراسة الفرنسية أميلي لورنار (المرأة والفضاءات العامة في المملكة)، التي أمضت لأجلها أكثر من ثماني سنوات في المملكة، ودرست اللغة العربية، وأجرت مئات المقابلات، واستطاعت أن تكتب عن قضايا لا نحلم نحن من نعيش داخل البلاد أن نكتب عنها أو نفهمها.
طبعاً لا ننسي في المثالين السابقين أن الباحثَين اختارا مواضيعهما دون أي تدخل أو منع أو مراقبة كما يحدث عندنا في الجامعات ومراكز البحوث كافة التي تخضع المواضيع (التي يسمح) في البحث فيها إلى كثير من التقليب والتغيير؛ حتى تكون (مناسبة) سياسياً واجتماعياً وأيديولوجياً، لكنها في النهاية لا تخدم الموضوع المبحوث إلا من حيث منح الدرجة للدارس، لكنها لا تقدّم علماً حقيقياً. وعلى سبيل المثال: من الطريف أن نكون أكثر بلد يعاني من التطرف ومن التحاق أبنائه بالفئات الضالة إلا أن الجامعات لا تسمح بالتعرض لمواضيع (تعتبر) حساسة وسياسية، مثل قضايا التطرف أو طرق معالجتها أو البيئات الحاضنة لها.. إلخ؟ خاصة أن الموافقات على الموضوع المدروس تمر بسلسلة إدارية طويلة، تقتل كل إبداع؛ فهي تبدأ من الطالب إلى مشرفه إلى لجان الدراسات العليا التي تضم - بلا شك - أساتذة متنوعين في اتجاهاتهم الفكرية التي (في الغالب) يُخضعون الطالب لها؛ لينتقل الأمر بعد ذلك إلى مجلس القسم، ثم مجلس الكلية، ثم عمادة الدراسات العليا، ثم عمادة البحث العلمي. ويستغرق أمر الموافقة على الموضوع والخطة ما لا يقل عن ستة أشهر (يمضيها الطالب في انتظار) الموافقات التي تخضع لحسابات سياسية وأيديولوجية قوية داخل هذه المجالس واللجان، تقضي على كل أمل في بحوث علمية متجردة، إضافة إلى أن الأمر لا يخلو من لجان خفية، قد يعلم بها الباحث وقد لا يعلم، تقر أو لا تقر المواضيع (التي يسمح) بدراستها! وبعد كل ذلك كيف لا يفقد البحث العلمي في الجامعات بوصلته الحقيقية؟