د. عبدالرحمن محمد السلطان
أكدت الورقة التي قدمتها في اللقاء السنوي الثامن عشر لجمعية الاقتصاد السعودية الأسبوع الماضي على أن سياسة دعم استهلاك الطاقة الحالية في المملكة غير قابلة للاستدامة
وتمثل تهديداً خطيراً يستدعي إجراء إصلاح شامل لبرامج دعم الطاقة بهدف رفع كفاءة وترشيد استهلاكها في كافة القطاعات. فمتوسط معدل النمو السنوي في الطلب على الطاقة خلال الفترة 2009-2012 بلغ 6.6%، ووفق هذا المعدل فإن إجمالي الطلب سيصل هذا العام إلى حوالي 4.9 مليون برميل نفط مكافئ يوميا، أي ما يعادل 39% من إنتاج المملكة من مصادر الطاقة الأولية في عام 2012، ولا يخفى على أحد مدى خطورة ذلك في ظل اعتمادنا شبه الكامل على صادراتنا النفطية.
فالطلب على الطاقة الكهربائية سيصل هذا العام إلى ما يعادل 550 ألف برميل نفط مكافئ يوميا، يستهلك إنتاجها 1.8 مليون برميل نفط مكافئ يوميا، منها حوالي مليون برميل من النفط الخام وسوائل الغاز الطبيعي. وسيرتفع الاستهلاك النهائي للطاقة إلى 3.2 مليون برميل نفط مكافئ يوميا، منها حوالي 1.8 مليون برميل يوميا سيستهلكها القطاع الصناعي، فيما سيصل استهلاك قطاع النقل والمواصلات إلى حوالي 940 ألف برميل يوميا.
تأخرنا الشديد في إصلاح نظام دعم الطاقة جعلنا الآن في أمس الحاجة إلى حلول إبداعية واقعية للتعامل مع هذه المعضلة، وقد توصلت هذه الدراسة إلى أن أفضل خيار متاح هو أنه مقابل رفع كبير جدا في أسعار مختلف مصادر الطاقة من نفط خام وسوائل غاز وغاز طبيعي ومشتقات نفطية وكهرباء بما يوصلها فوراً إلى معدلاتها العالمية يعوض مستهلكي الطاقة في كافة قطاعات الاقتصاد السعودي بتحويل نقدي يعادل الفرق بين تكلفة استهلاكهم من مختلف مصادر الطاقة في آخر عام قبل إقرار إصلاح نظام دعم الطاقة وبين ما سيتحملونه ثمناً للكميات نفسها وفق الأسعار الجديدة، لكن مع تخفيض تدريجي سنوي في مبلغ التحويل النقدي بحيث يتلاشى تماماً بمرور خمس عشرة سنة على إطلاق برنامج الإصلاح، ليصبح مستهلكو الطاقة في كافة القطاعات متحملين لكامل تكلفة الطاقة التي يستهلكونها دون أي دعم حكومي.
والحقيقة أن مما أسهم في إيصالنا إلى هذا الوضع هو عدم وجود جهاز حكومي معني بقضايا الطاقة وفق منضور شمولي يضمن تكامل السياسات الحكومية وعدم تعارضها بصورة تضر باقتصادنا الوطني. ففي ظل غياب خطة شاملة للتعامل مع قضايا الطاقة نجد أن وزارة التجارة والصناعة والهيئة العامة للاستثمار اهتمامها مقصور على تشجيع الصناعة وجلب الاستثمارات دون أن تكون معنية بانعكاسات ذلك على حجم الطلب على مصادر الطاقة محليا ولا بكون هذه الاستثمارات تستفيد من تسعير غير واقعي لمصادر الطاقة ينتج عنه بالضرورة توسع في صناعات قيمها المضافة الحقيقية محدودة جدا. ووزارة المياه والكهرباء وهيئة تنظيم الكهرباء والإنتاج المزدوج همهما أن يواكب إنتاج الكهرباء حجم الطلب عليه دون أن تكون معنية بتدني الكفاءة الواضح جدا في عمليات توليد الكهرباء الذي يجعل إنتاج ما يعادل 550 ألف برميل نفط مكافئ يوميا من الطاقة الكهربائية يستهلك ما يزيد على 1.8 مليون برميل نفط مكافئ من مصادر الطاقة يوميا، منها مليون برميل من النفط الخام يتم حرقها يوميا. ومدينة الملك عبدالله للطاقة الذرية والمتجددة تعمل باستقلالية عن هذه وتلك، ومركز كفاءة الطاقة يبذل جهودا مضنية لكن في نطاق صلاحيات لا تتيح له ترك التأثير المطلوب على هذه المشكلة المستعصية والمتفاقمة، إلى جانب عدد آخر من الأجهزة الحكومية التي تنعكس استراتيجياتها وقراراتها بصورة مباشرة أو غير مباشرة على مشكلة نمو الطلب على مصادر الطاقة محليا.
على سبيل المثال نتيجة لغياب مثل هذه النظرة الشمولية نجد الكل يتحدث عن خطر نمو استهلاك المشتقات النفطية، كالبنزين والديزل، بينما المعضلة الأكبر والأخطر هي نمو استهلاك الطاقة في القطاع الصناعي ونموه بغرض توليد الكهرباء. فالكل يتحدث عن الميزة النسبية التي تتمتع بها الصناعة البتروكيماوية في المملكة، رغم أن حصول شركات البتروكيماويات في المملكة على الغاز المصاحب والنفط الخام والغاز الطبيعي بسعر يقل كثيراً عن أسعارها العالمية لا يمثل ميزة نسبية حقيقية، بالنظر إلى ارتفاع تكلفة الفرصة البديلة لمصادر الطاقة التي تستهلكها هذه الصناعة، ما يجعلها ميزة مصطنعة غير حقيقية. إلى جانب ما تسبب به هذا التسعير المتدني لمصادر الطاقة في توسع أفقي مبالغ فيه في صناعة البتروكيماويات فتعددت شركات هذا القطاع رغم كونه قطاع صناعة حجم كبير ترتفع كفاءته بوجود عدد محدود من المنتجين، كما حد من توجه هذه الصناعة إلى إنتاج السلع البتروكيماوية عالية التقنية مرتفعة القيم المضافة كونها غير مضطرة لذلك في ظل ما تحققه من أرباح عالية من منتجاتها البتروكيماوية الأولية.
هذا الواقع المؤلم وخطورة المشكلة والحاجة إلى حل جذري غير تقليدي لمشكلة تعقدت خلال عدة عقود من الدعم المبالغ فيه جدا لاستهلاك الطاقة في مختلف القطاعات يجعلنا في أمس الحاجة إلى وجود جهاز حكومي واحد يجمع كل هذا الشتات ويتعامل بشمولية مع مختلف قضايا الطاقة المحلية منها والعالمية، ما يحد من تضارب السياسات ويضمن تكاملها بصورة تجعلنا أقدر على تنفيذ حلول عملية تقلص من حجم الاستهلاك المحلي لمصار الطاقة وترفع من كفاءة استخدام مواردنا النادرة، وذلك من خلال إنشاء وزارة للطاقة تضم تحت مظلتها وزارة البترول والثروة المعدنية القائمة حاليا بالإضافة إلى مختلف الأجهزة والأنشطة المعنية بقضايا الطاقة في جهاز الدولة، وإن كانت دولاً لا تمثل الطاقة بالنسبة لها الأهمية التي تمثلها لنا بادرت بإنشاء وزارات للطاقة، فإن وجود مثل هذه الوزارة الآن أكثر من ملح ولا يحتمل التأخير.