د. جاسر الحربش
أثناء عملي في مرحلة الامتياز في إحدى مدن الجنوب الألماني كان يعمل في نفس المستشفى زميل ألماني لا يلفت الانتباه فيه سوى كونه أصبح الموضوع اليومي المفضل لتندر الزملاء وتعليقاتهم الساخرة. كان رجلاً عادياً في كل شيء، في بنيته وكلامه ومظهره وفي مهاراته الجراحية كذلك. طموحاته للمستقبل هي التي بدت للزملاء من الأطباء وطواقم التمريض أكبر من المتوقع منه. الرجل يعمل بتفان وهدوء في مجال الجراحات المتوسطة ويكسب مرتبه الشهري عن استحقاق ويبدو على انسجام كامل مع أجواء المستشفى والمرضى. ما لفت انتباه العاملين في المستشفى كان حرصه للرجوع إلى مكتبه بعد كل عملية جراحية ليقلب ويتمعن في مجموعة كبيرة من هياكل العظام والمفاصل التي كانت تملأ رفوفه الخاصة والطاولة التي كان يجلس إليها. ما ان يلاحظ الزملاء قدومه إلى مطعم المستشفى في فترة الغداء حتى يبدؤون في التهامس، انتبهوا أبو مفصل في الطريق، تمسكوا جيداً وحافظوا على مفاصلكم الخاصة، على كل زميل وزميلة الانتباه لمفاصله، ثم يتضاحك الجميع وهو أيضا ً يشاركهم الضحك بكل ابتهاج. الممرضون والممرضات في قسم الجراحة كانوا يتمتمون لبعضهم على سبيل المزاح. يا إلهي من أين وكيف استطاع أبو مفصل جمع كل هذه العظام، إنه لأمر مخيف، لابد أن في الأمر سراً لا نعرفه.
لم تكن تلك التعليقات تتعدى كونها محاولات ترطيب الأجواء الجدية أثناء العمل المجهد في المستشفى، ولكن الكل كان يعرف أن زميلهم أبو مفصل يحمل القلب الأكثر طيبة ومرحاًً بين الجميع. لم يكن اهتمام الزميل المكنى أبو مفصل بجمع الهياكل والمفاصل يقتصر على العظام البشرية، بل أيضا ً مفاصل أنواع متعددة من الكائنات الحية، ليقلب فيها ويدرسها ويرسمها بيده على الورق من مختلف الزوايا والسطوح. لم يكن ذلك السبب الأهم للتندر عليه بقدر ما كان جوابه المتكرر بكل ثقة على كل من يسأله بأنه يخطط لاختراع أفضل مفصل صناعي في جراحة المفاصل ليكسب الشهرة والمال.
ذلك الجـراح البسيط المتوسط الكفاءة والحضور الشخصي عمل بهدوء وصبر لتأمين مستقبله، لكي يصبح جراحاًً وزوجاً سعيداً، وقد تحقق له ذلك، ثم انصرف للعمل بجد على المرحلة التالية لتحقيق طموحه الذاتي، أي أن يضيف إلى الطب بصمته الخاصة ويحصل في المقابل على الشهرة والمال. لهذا السبب كان الرجل يدرس أسرار المفاصل فقط، أنواعها وأشكالها وطريقة التمفصل وحرية الحركة لكل نوع ومقارنة المعلومات بين مفصل كائن وآخر.
بعد ذلك كنت قد غادرت المستشفى إلى آخر للتدرب في المجال الطبي التالي، حين تلقيت ذات يوم اتصالاً تلفونياً من المدير الإداري في المستشفى القديم، لينقل لي وفاة رئيس القسم الذي كنت أعمل فيه وليوصل لي أمنية أبداها لعائلته قبل وفاته في أن أكون أحد الحضور في وداعه الأخير، وهذا ما تم بالفعل.
المهم، وهذا ماله علاقة بموضوع المقال عن الزميل أبو مفصل وما عرفته بعد مراسم الجنازة من الزملاء، هو أن زميلهم كسب فعلاًً الرهان بعد تقديم نموذج مفصل صناعي صالح لاستبدال مفصلي طبيعي تالف. كانت جراحة استبدال المفاصل آنذاك في بداياتها، وبعدما أمضى زميلنا بضع سنوات متواصلة من التأمل والدراسة ورسم خطوط القوة والضعف في المفاصل، قدم نموذجه الخاص لاستبدال مفصل الورك إلى شركة طبية، وتبنت الشركة تصنيع النموذج وطرحه في الأسواق الطبية.
منذ ذلك اليوم خفتت تعليقات العاملين في المستشفى على زميلهم لأنه حقق هدفه في حين لم يكن أحد ليتوقع ذلك من قبل. العزيمة والإصرار ووضوح الهدف مكنت ذلك الزميل المتوسط الإمكانيات من كسب الرهان.