هاني سالم مسهور
منذ أكتوبر 1963م دخلت مدينة عدن التاريخ المتضطرب، فبعد استعمار بريطاني دام مائة وثمانية عشر عاماً ظهرت ثورة أكتوبر التي قامت على أسس الاستقلال في موجة عارمة شهدها العالم مع أفول الإمبراطورية البريطانية، وفي تلكم المرحلة من التاريخ كانت القومية العربية واحدة من التيارات الجارفة والتي امتطتها كثير من الحركات النشطة في العالم العربي، ولم تكن عدن استثناءً، ولم تكن عدن بموقعها الجغرافي وعمقها الحضاري وحتى حضورها الزاهي بحكم وجود الاستعمار فيها تنتظر مساراً صعباً دفعت فيه الأثمان الباهظة توالياً.
انتهت ثورة 14 أكتوبر 1963م بقيام «جمهورية اليمن الديمقراطية الجنوبية» في الثلاثين من نوفمبر 1967م، وهو تاريخ الاستقلال، والذي شمل مستعمرة عدن والمحميات الشرقية والغربية منها. ودخلت عدن مرحلة أخرى من تاريخها السياسي عندما اتخذ حكامها مساراً سياسياً لا يتناغم مع الجغرافية المكانية وحتى الزمانية، ولم يعتبر بالعمق الذي تشكله مناطق الجنوب في شبة الجزيرة العربية، فيممت عدن وجهها صوب اليسار، واتخذت من النهج الاشتراكي أسلوباً سياسياً، ودخلت في صراعات منهجية طويلة على مدار سنوات شهدت فيها عدن محطات مختلفة، منها تأسيس نظام اجتماعي وإداري منضبط ودقيق، ولكن هذا لم يشفع لها أن تشهد صراعات دامية على أثر توالي الانقلابات السياسية في السلطة الحاكمة توجت بأحداث 13 يناير 1986م.
دفعت عدن ثمناً باهظاً جداً على مدى سنوات الحقبة الاشتراكية، ولم تنته هنا، بل إن عدن دفعت ثمن الوحدة مع الجمهورية العربية اليمنية في 22 مايو 1990م عندما تقدمت خطوات حقيقية لتحقيق الوحدة الاندماجية، وبعد ثلاثة أشهر فقط اكتشف الجنوبيون في عدن أنهم في (ورطة)، فلقد شهد الثاني من أغسطس 1990م غزو القوات العراقية للكويت ليكتشف الجنوبيون أن الرئيس علي عبدالله صالح قرر أن يكون مع (دول الضد)، وهذا مصطلح ظهر في التباينات العربية أثناء انعقاد قمة القاهرة لإقرار الحرب ضد العراق وتأييد الإجراءات السعودية المتخذة آنذاك.
وكنتيجة طبيعية لسوء النشوء للدولة اليمنية الواحدة، فلقد تأزمت الأوضاع السياسية بين الجنوبيين والشماليين، وانتهت بتوقيع (معاهدة العهد والاتفاق) في العاصمة الأردنية عمّان، والتي انتهت مباشرة بإعلان صنعاء الحرب واجتياح الجنوب وإسقاط العاصمة عدن في السابع من يوليو 1994م، وهي الحرب الدموية التي صمدت فيه عدن صموداً أسطورياً خلال أكثر من شهرين استخدم فيها الرئيس المخلوع علي صالح الأسلحة الثقيلة كافة، مبرراً ذلك الاجتياح بفتاوى التكفير التي أمنت له استباحة عدن والمكلا، مما شكل منعطفاً سياسياً محورياً على نطاق اليمن والجنوب.
دخلت عدن هذه المرحلة وهي مجردة من كل العوامل للحياة، فلقد اعتبر الجنوبيون مواطنين من الدرجة الثانية، واختلت كل موازين العدالة الوطنية، ولم يجد الجنوبيون سبيلاً غير الثورة في موجات مختلفة بدأت من المكلا في 27 إبريل 1997م وتوجت فعلياً في تدشين الحراك الجنوبي السلمي في 2007م، والذي كان المحطة التي مهدت حقيقة للثورة ضد نظام المخلوع علي عبدالله صالح، والذي لطالما ألصق الاتهامات بالحراك الجنوبي واصفاً أياه بالمسلح وبالمتعاطي مع الأجندة الإيرانية، وسارت الأيام لتنكشف كل الحقيقة، فالحراك الجنوبي بقي سلمياً حتى وهو يخسر فلذات أبنائه في التظاهرات والاعتصامات الشعبية السلمية، وتنكشف نهاية علاقة المخلوع علي صالح مع حلفاء إيران الحوثيين في اليمن وتتضح للعالم بشكل كامل حقيقة المطالب الجنوبية العادلة في مقابل الأجندة الشيطانية التي يقودها المخلوع صالح.
انتظرت عدن تحديداً اثنين وخمسين عاماً حتى ظهر الأمير محمد بن سلمان وزير الدفاع السعودي موجهاً كلمة واضحة وصريحة بقوله لنجل المخلوع صالح (عدن.. خط أحمر)، مسافة أكثر من نصف قرن كلها عاشتها عدن تنتظر هذه الجملة لتكون عدن حقيقة مع نسيجها الاجتماعي والديني وحتى الاقتصادي، فالسياسات التي أخضعت لها عدن لا يمكن أن تنسجم وانفتاحها وبقية الشريط الساحلي الذي يمثل حقيقة العمق الاستراتيجي لشبة الجزيرة العربية من كل النواحي، بما في ذلك التناغم المذهبي الشائع في حضرموت وبقية المناطق الجنوبية. عدن والتي تشهد ومنذ بداية عمليات (عاصفة الحزم) مقاومة ذاتية وكانت صادقة بالقول والفعل في تأييدها لما اتخذته المملكة العربية السعودية من إجراءات حازمة، بينما ما نراه في مناطق الشمال لا يمثل غير تأييد بالقول لا الفعل، فلم تتحرك القوى الوطنية في عموم مناطق الشمال لدعم شرعية الرئيس عبدربه منصور هادي، ولم تصل حتى الحالة للوقوف الإنساني مع صمود عدن ضد القوات الغازية لها.
عدن اليوم تمثل انشطاراً ذاتياً فلا يمكن، وليس من المقبول أن يتم التعاطي مع التضحيات الجسيمة التي يقدمها أهل عدن المدنيين بطبيعتهم مع مشاريع سياسية لا تنصف الدماء التي تضحي والتأييد الصريح المطلق مع عملية (عاصفة الحزم)، وتدرك عدن اليوم أنها وكما كانت في الستينيات الميلادية من القرن العشرين الماضي بوابة التغيير في الشرق الأوسط، تدرك اليوم أنها ذات البوابة التي هزمت فيها الرياض طهران على أسوارها وأسقطت من خلال عدن المشروع النووي والحلم الإمبراطوري الفارسي، فماذا سيكون الثمن الذي تستحقه.. عدن!!