د. خالد محمد الصغِّير
أفرز الحراك الكبير الذي شهده ميدان التعليم العالي في المملكة مؤخراً، وبخاصة برنامج خادم الحرمين الشريفين للابتعاث الخارجي تنامي سياسات اختطتها لنفسها الجامعات، وتبني قرارات اتخذتها ويأتي على رأسها إبداء الجامعات قدراً كبيراً من التحفظ على مخرجات برامج الدرسات العليا المحلية وتفضيل مخرجات نظيرتها
الخارحية، والغربية تحديداً. وبصدد عرض هذا التوجه المتنامي أجد أنه من المناسب البدء بعرض حالة تمثل صدى ونمطاً لسياسات كثير من الجامعات المترددة في الآونة الأخيرة في استقطاب المخرجات البشرية المحلية لبرامج الدراسات العليا.
كنتُ ذات يوم على أُهبة الاستعداد لمغادرة مكتبي حيث كانت الساعة تُشير إلى الثانية وخمسة وعشرين دقيقة. وبعدما لمملمتُ أوراقي أخذت طريقي للخروج وإذا بذا الوجه الصبوح يستوقفني مستفسراً عن أوراق زوجته التي أرسلتها، ولكن لم يصل ما يُفيد باستلامها. أشرتُ لمعاوني أن يبحث الأمر ويفيدني في الغد. وما أن هممتُ بالجلوس في مقعد مكتبي في صباح الغد فإذا بمساعدي يناولني أوراقها. تصفحتها فوجدتها مُشرّفة تُنبأُ عن كفاءة علمية وطنية تَشرفُ المؤسسة التعليمية بانضمامها لها. بعدها كإجراء اعتيادي بعد الفحص الأولي الذي أبان عن مناسبتها تواصلنا معها لترتيب مقابلة علمية معها كان لها فيها حضور لافت، ومقنع علمياً، ولغوياً، وشخصياً، وثقافياً، وبنهاية المقابلة بادرتها بسؤال استفزازي لقياس مدى قدرتها على التعامل مع مواقف مشابهة ربما تصادفها أثناء عملها الميداني الأكاديمي مفاده: لو قررت اللجنة العلمية التوصية بعدم قبولك وإبلاغك بذلك قبل أن تنهضي من مقعدك إيذاناً بانتهاء المقابلة، فما ردك؟
سكتت بُرهةً فيما يبدو لتستجمع قواها بعد سماع هذا السؤال الصادم الذي ربما يتحول لحقيقة يقضي على حلم عمرها الذي بلغ مداه سنتين منذ حصولها على درجة الماجستير من جامعة محلية. أجابت بعدها بثقة: لدي من الإمكانات والقدرات ما يشفع بحدوث العكس، وإن حصل ما لا أتمناه فسأفوض أمري لخالقي، وسأواصل مسيرتي، وركضي من دون كلل ولاملل حتى أصل لمبتغاي بالانضمام لعضوية قسم علمي بصفتي عضو هيئة تدريس فيه.
وبعد أن قام كل عضو من اللجنة العلمية بإعطائها ما تستحق من درجات، قمنا بإخراج المتوسط فكان عالياً يُنبأُ عن قبول ملحوظ. وبعد المداولات أشار الأعضاء من دون تردد بكتابة توصية إيجابية بتعيينها عضو هيئة تدريس بالقسم. وما أن غادر أعضاء اللجنة العلمية - الذين هم على مستوى عالِ من الخلق، والعلم - اختليت بنفسي محاولاً استرجاع شريط المقابلة مستشرفاً في الوقت نفسه كيف سيكون حال القسم العلمي بوجود أمثال هذه الكفاءات الوطنية المتميزة. شعرت حينها أنني سأنام قرير العين كيف لا ومخرجاته ستكون بأيدي كفاءة علمية وطنية نُفاخر بها. يبدو أنني استغرقت طويلاً في التفكير ولم أشعر إلاّ ومساعدي الأمين الهُمام المتفاني يقول مخاطباً إياي بأدب جم: «دكتور فيه عمل أنت جالس علشانه». نظرت إليه وفهمتُ من عبارته تلك أن وقت الدوام انتهى.
كنت أُدرك أنه ينتظرني عمل كثير من الغد فقررت أن آخذ الأوراق معي للمنزل حتى أُعد التقرير بعد عودتي من زيارة غاليتي والدتي في المستشفى عليها رحمة الله تعالى. كانت الساعة تُشير إلى العاشرة والنصف مساء عند وصولي للمنزل. كان التعب النفسي بسبب حالة والدتي (تغمدها الله بواسع رحمته) قد بلغ مني مبلغه، فضلاً عن إرهاق جسدي من جراء يوم عمل طويل وشاق. ومع هذا فتلبية واجب نداء بنت الوطن منحني طاقة بددت ذلك كله فأخذت أعمل على إعداد التقرير بهمة حتى أنهيته في حدود الثانية عشرة والنصف بعد منتصف الليل. خلدت بعدها للنوم في انتظار بزوغ فجر يوم جديد لأقدم تقريري لجهة الاختصاص في الجامعة.
وما أن وصلت لمكتبي وإذا بالهاتف يرن أجبته فإذا هي بنت الوطن تسألُ عن مصير طلبها فأخبرتها أن عليها الانتظار قليلاً حتى تطلع عليه الأطراف المعنية، وتنظر فيه الأقسام والمجالس العلمية. ودعتها بدعوة صادق بالتوفيق، والسداد، وبطلب تقديم الفأل الحسن. وضعت التوصية العلمية الإيجابية في حق بنت الوطن بين يدي صانعي القرار، وكنت آمل أن يتم التعامل مع حالتها بناء على ما تضمنها التقرير، وكذلك ما تحمله من مؤهلات، وخبرات، ولكن جاء الجواب بخلاف ما كنت أتمناه بتذكيري بالسياسة والقرار الذي اتخذته الجامعة بعدم استقطاب خريجي برامج الدراسات العليا المحلية.
وأمام هذه الحالة التي هي رقم من عدد كبير من حالات مماثلة أجد أنه من الضرورة بمكان مناقشة هذا الموضوع الحيوي الآخذ بالتزايد في الآونة الأخيرة والذي أضحت معه جامعاتنا في مرمى نقد، وربما استغراب، وتساؤل ممزوج بالحيرة والحسرة يطالها من قبل خريجي الدراسات العليا من جامعاتنا المحلية. مسيرو الجامعات -نظراً لسعيهم الحثيث للبحث عن كفاءات علمية متميزة يرفدون بها الأقسام العلمية- يرون أن الكفة تميل لصالح من تم تأهيلهم وإعداهم في الجامعات الخارجية، والغربية تحديداً، ويبدون تحفظاً صريحاً يطال معظم مخرجات برامج الدراسات العليا في الجامعات المحلية، وبخاصة تلك التي تمنح درجات علمية في مجال اللغة الإنجليزية تحديداً، والدراسات الإنسانية بشكل عام، وخريجو هذه البرامج العلمية المحلية العليا يردون بأن بناة هذه البرامج العلمية، وأساتذتها ممن تخرجوا في الجامعات الغربية ومعظمهم يتبنى المنهج الغربي في تدريسهم. وترد الجامعات بأن الثقافة المحلية بكل معطياتها، وكذلك النقص في الإمكانات البشرية والأدوات تجعل من الصعوبة بمكان أن يطبق هؤلاء الأساتذة الأطر والمعايير العلمية المتفقة مع ما يتم تطبيقه في المؤسسات العلمية العالية الغربية التي تخرجوا فيها.
والمخرج من هذا التجاذب الشائك يكمن في القيام بعدد من الخطوات والإجراءات، وبخاصة في ظل توجه الجامعات السعودية في التوسع في الدراسات العليا، وكذلك في ظل انخفاض ملحوظ في معايير الجودة المنهجية في أداء تلك البرامج المحلية. الجامعات بحاجة إلى إجراء غربلة حقيقية لبرامج الدراسات العليا على مختلف الأصعدة بدءاً من وجود رسالة وأهداف واضحة المعالم لبرامج الدراسات العليا، ووضع سياسة ومعايير وشروط القبول والانتقاء لها، وإعادة النظر في الخطط والبرامج الدراسية، ووسائل التقييم فيها، وطرق التدريس، والعمل على إجراء تحسين حقيقي للإمكانات البحثية، والمعملية، والمصادر، وإخضاع هذه البرامج للتحديث والتقييم دورياً، وتشخيص أهم المشكلات والصعوبات التي تعترض برامج الدراسات العليا، وبيان أسبابها، وأعراضها، وسبل معالجتها، والوقوف على التجارب والممارسات الناجحة. إضافة إلى ذلك برامج الدراسات العليا المحلية بحاجة إلى تجويد الإشراف على الرسائل والأطروحات، ووضع معايير يجب تحققها في عضو هيئة التدريس المشارك في برامج الدراسات العليا. وكذلك مناقشة كافة القضايا والإشكالات الإدارية ذات المساس المباشر بجودة مخرجات برامج الدراسات العليا المحلية، ولا يقل عن ذلك أهمية الأخذ في الحسبان جودة العملية التعليمية، والحوكمة المعلوماتية في مجال البحث العلمي لتلك البرامج.
وعلى الطرف الآخر الجامعات التي تتبنى سياسة التحفظ هذه المنبثقة من مضمون المثل الشعبي بأن مزماز مخرجات برامج الدراسات العليا المحلية لا يروق لها، أو بعبارة أخرى تعتقد بتدني مستواها الأكاديمي، وضعف مخرجاتها يمكنها القيام بعدد من الإجراءات، والاشتراطات حتى تضمن انتقاءً مناسباً لمخرجات هذه البرامج المحلية العليا ومنها إخضاع المتقدم، أو المتقدمة لمقابلة عميقة لقياس قدراته الشخصية، والعلمية، واللغوية، والثقافية وفق معايير علمية مقننة غير خاضعة للاجتهاد والشخصنة، وإخضاع البرنامج الذي تخرج فيه المتقدم للمراجعة الدقيقة والعلمية. كما يمكن الطلب من المتقدم الحصول على درجات محددة في الاختبارات العالمية المعيارية المعتمدة عاليماً، وكذلك اشتراط حصول المتقدم على الخبرة الميدانية التدريسية على الأقل فصل، أو فصلين دراسيين. إضافة إلى اشتراط النشر العلمي، أو على أقل تقدير تقديم ورقة بحثية في مؤتمر دولي معتمد في الحقل العلمي الذي ينتمي له المتقدم، وإظهار ما يثبت تفاعله مع الأنشطة العلمية، والبحثية، والبرامج التطويرية في مجال دراسته، وتقديم ما يثبت سعيه الحثيث لتطوير قدراته وإمكاناته في مجال تخصصه العلمي.
وفي الختام يبدو أن هذا التجاذب بين الجامعات، وخريجي برامج الدراسات العليا المحلية يظهر مدى الحاجة الضرورية للقيام بالإجراءات الضرورية التي تضمن تحسين تلك البرامج، وتجويد مخرجاتها التعليمية، واتباع المعايير العالمية عند تصميم وتنفيذ برامجها من أجل أن تكون رافداً حقيقياً لمد الجامعات بمخرجات بشرية محلية نوعية تضاهي وتتفوق على المخرجات المماثلة الخارجية لتسهم في الارتقاء بالعملية التعليمة داخل الأقسام العلمية في جامعاتنا.