اللواء الركن م. سلامة بن هذال بن سعيدان
وهذه الاستراتيجية المعتمدة تقوم على أسس، أولها إجراءات وقائية، تهدف إلى المراقبة والحصول على المعلومات والإعلام الهادف والحرص على تجفيف منابع التمويل ومنع امتطاء الدين. وثاني هذه الأسس التدابير العلاجية، ويتم التركيز فيها على التعامل المباشر والمعالجة الفعلية، والتهيئة لما يعقب هذه المرحلة من الانتقال إلى ثالث الأسس، وهو الرعاية والعناية المشتملة على إعادة التأهيل والمناصحة.
وفي أعقاب ما يعرف بالربيع العربي، وظهور تنظيم داعش وغيره من التنظيمات الإرهابية، توسع مفهوم الإرهاب، وتشابكت خطوط اللعبة، وتداخلت حلقاتها، وازداد عدد اللاعبين، واختلط الحابل بالنابل إلى الحد الذي زاد المشهد تعقيداً، وجعل آخر النفق يبدو بعيداً، وطغت ازدواجية المعايير على تصنيف الإرهاب، وأخرجت مكافحته عن سياقها، عندما استهدف التحالف الدولي تنظيمات إرهابية بعينها وتجاهل النظام السوري والتنظيمات الرافضية التي تمارس إرهاباً فعلياً، وتعيث فساداً في سوريا والعراق واليمن. والتحالف بهذا السلوك كمن يعالج أعراض المرض ويترك أسبابه؛ فنظام الأسد في سوريا، ونظام الفقيه في إيران، هما رعاة الإرهاب والداعون إليه، والدليل أنهما أكثر المستفيدين من وجود هذا الإرهاب والحرب عليه، لكنه يتضح أن وراء الأكمة ما وراءها، والتخادم بين بعض الأطراف يسيطر على خلفية المشهد.
ومشاركة المملكة في مكافحة الإرهاب خارج الحدود لها ما يبررها؛ فهي أول من عانى من جرائمه، ولا تزال تعاني منها. وحتى تأخذ الحرب مشروعيتها، وينطبق اسمها على مسماها، يتعين على دول التحالف عدم الكيل بمكيالين على النحو الذي يفتح الباب لبعض التفسيرات والتوصيفات، كما أن موقع المملكة في قمة الهرم السني يفرض عليها أن يكون لمشاركتها ثمن يليق بمكانتها ومركزها الديني، وهذا الثمن هو أن يتم استهداف قوات النظام السوري، وتجريم التنظيمات الإرهابية التي تقاتل إلى جانبه، واستهدافها، والتعامل مع الموقف بعدل وإنصاف.
والتهديد الإيراني أصبح يشكّل خطورة متنامية على المملكة ودول مجلس التعاون والمنطقة العربية بأسرها. وتكمن هذه الخطورة في نزعة إيران التوسعية، وتطلعها إلى الهيمنة الإقليمية على حساب الدول العربية التي أصبح بعضها مغلوباً على أمره بسبب ممارسات أنظمتها وتمرد أقلياتها. وقد استخدمت إيران ملفها النووي تارة، ونفاقها السياسي تارة ثانية، ونفوذها في المنطقة تارة ثالثة، وتقاطع مصالحها مع الدول الكبرى تارة رابعة، وذلك من أجل إيجاد بيئة صالحة للتخادم بينها وبين دول التفاوض بما مكنها من المقايضة والمساومة في سبيل ضمان مصلحتها وامتداد نفوذها.
وعلى الجانب المقابل، استغلت إيران الفوضى الحاصلة في بعض الدول العربية، والفراغ الذي ترتب على هذه الفوضى لتكريس مذهبيتها، ورفع شعاراتها، متجاوزة الاعتصام بالتقية واستخدام الوسائل الناعمة إلى استخدام القوة والتدخل العسكري السافر بصيغة شبه معلنة، وبدون مواربة أو خوف من أحد للإجهاز على العرب السنة وقتلهم تحت ذرائع واهية وحجج باطلة، وصار السنة في العراق وسوريا بين سندان إرهاب تنظيم الدولة المحلي والمستورد، ومطرقة الإرهاب النصيري والصفوي المغضوض الطرف عنهما، حتى أن هذين القطرين أصبحا شبه محتلين من قِبل إيران، وهذا التواطؤ الأمريكي الغربي مع إيران ما كان له أن يحدث لولا أنه يخدم إسرائيل والمفاوضات الجارية حول الملف النووي.
ورغم أن الإرهاب ظاهرة عالمية، وخطر داهم، وتهديد قائم، وقد تكون مصائب قوم مكاسب عند آخرين، إلا أن الفارسية الصفوية واليهودية الصهيونية والتنظيمات الدائرة في فلك الأولى واستخبارات الثانية ورعاتهما من الغرب والشرق هم المستفيدون من التنظيمات الإرهابية الموجودة في الوطن العربي، ويعود إليهم تسميتها بأسماء محسوبة على المذهب السني، فإذا عُرِف من المستفيد ومن المتضرر فمن يقف إذن وراء هذه التنظيمات ويغذيها، ويجعل منها مبرراً لقتل الحواضن السنية المغلوبة على أمرها، ونهب ممتلكاتها وتدمير مقراتها؟
وما يحصل في سوريا والعراق ولبنان من قِبل إيران هو تهديد للأمن القومي العربي بصورة عامة، وتهديد لأمن المملكة الوطني بصفة خاصة؛ إذ إن حدود المملكة مع العراق أصبحت عرضة لتهديد مزدوج، أحد طرفيه تنظيم الدولة، والطرف الآخر هو إيران. وقومية العراق العربية وهويته الوطنية حل محلها وجود فارسي صفوي، يقوم على الطائفية البغيضة والعنصرية المقيتة؛ ما نجم عنه تحول البيئة العراقية إلى مرتع خصب للتحريض والتربص نتيجة لتراكمات من ظلم ذوي القربى، وفئات حاسدة، وسياسات فاسدة، والوجود الإيراني الظاهر والمستتر الذي هو المرجع الأول لكل التهديدات والأعمال العدوانية.
والتهديد الإيراني القائم على حدود المملكة الشمالية وعبر الخليج العربي لم يكن جديداً بل قائماً منذ عقود عدة، إلا أنه تعاظم خطره، واستفحل أمره منذ أكثر من عقد من الزمن، حتى بلغ مرحلة الوصاية على العراق. وهذا الواقع المعاش قد دفع بأحد قادتهم إلى أن يصف العراق بأنها داخل مجالهم الحيوي، وأن بغداد تمثل عاصمة لهذا المجال، ولم يقل ذلك متبجحاً إلا بعد استلامهم زمام القيادة والدخول في معارك باسم الإرهاب لقتل السنة وتهجيرهم على مسمع ومرأى من القيادة العراقية وبمباركتها. وطالما وصلت الحالة إلى هذا المستوى، وارتفع سقف التهديد، فلا مناص من مواجهته وقبول التضحيات مهما ارتفع سقفها، والاعتماد على الذات، وتوسل الوسائل المادية والمعنوية الكفيلة بدرء المخاطر القادمة والتحديات المتعاظمة.
وتهديد إيران لأمن المملكة على حدودها الجنوبية من خلال دعمها للحوثيين، وتغلغلها هناك، ما هو إلا نتيجة لإصرارها على مواصلة أطماعها التوسعية، وتنفيذ استراتيجيتها ومشروعها الذي تبنته في المنطقة منذ عقود في غياب الاستراتيجية المقابلة والمشروع المضاد؛ ما حفزها على الاستمرار في تصدير ثورتها، وزرع أذرع لها في أماكن مختارة مستفيدة من غياب المشروع المضاد، ومستغلة العزف على وتر الإرهاب. وهذا التهديد يعتبر حلقة ضمن سلسلة التهديدات، لكنها هي الحلقة الأخطر؛ إذ أصبح الهلال الشيعي بدراً، والقوس الرافضي دائرة. وما كان لهذا التهديد الخطير أن يتبلور ويصبح حقيقة وأمراً واقعاً لولا وقوع بعض الأطراف المهددة في الكثير من الأخطاء القاتلة، والانهماك في حالات من التسويف والمماطلة. والآن، وقد حصل ما حصل، واحتل الحوثيون صنعاء وعدداً من المحافظات اليمنية، واستولوا على ترسانة من الأسلحة بالتواطؤ مع الرئيس المخلوع، فإن الموقف الذي اتخذته دول مجلس التعاون من الانقلاب الحوثي وعزله سياسياً واستصدار قرارات من مجلس الأمن ضده وانتقال الرئيس الشرعي إلى عدن والاجتماع المزمع في الرياض كلها مواقف تحسب لدول المجلس، وهي مواقف اتسمت بالتعقل والنضج السياسي، وآتت ثمارها رغم تأخرها بسبب الاعتماد على مندوب مجلس الأمن الذي يُنسب إليه الكثير من الأخطاء، ويُتهم في نزاهته.
وإذا كان الشكل يفهم عن شكله أكثر، ويحرص على اقتفاء أثره، ويتخذ منه قدوة، فإن هؤلاء القوم على خطى أسيادهم في إيران، ويجمع بينهم الإخلاص للمذهب، والاعتصام بالتقية، والنفاق السياسي، وعندهم الغاية تبرر الوسيلة، مهما كانت الوسائل ظالمة والمبررات باطلة والممارسات فاسدة، وكل ما يحرصون عليه هو تغليف ذلك بالتقية والنفاق، وتنفيذه خلف ستار من الشعارات الخادعة، والمساومات الكاذبة والمزايدات الخائبة، وكلها ممارسات تقوم على التدليس والتلبيس والتلفيق، مثل: امتطاء الدين ورفع شعار المقاومة ومناصرة المظلومين وغيرها. والكلام باللسان رغم أنه زور وبهتان إلا أنه يخدم القلب المغلف بالأدران، ولله در القائل:
وأنتم أُناس فيكم الغدر شيمة
لكم أوجه شتى وألسنة عشر
وقال آخر:
ثوب الرياء يشف عما تحته.
وإذا التحفت به فإنك عار
والحركة الحوثية عبارة عن حركة ظلامية وعصابة متمردة، خرجت من رحم الحرب، وتمرست عليها، ولا تجد نفسها إلا من خلالها. ومن هذا حاله فلا يرجى منه خيرٌ، وهو معول هدم لا عامل بناء. وإذا كان الشكل يقارن مع شكله، فإن النظام الإيراني هو الآخر يعتبر نظاماً شاذاً، ما تدخل في بلد إلا جر عليه المآسي والنكبات، وجلب له الخراب والدمار، والقاسم المشترك بين الطرفين هو أن حركة السيد تمثل صورة مصغرة لنظام الفقيه، وبقاء الحركة مرهون بالقتل والتسلط، وتطور النظام الإيراني وقدرته على التمدد واتساع النفوذ مقرون بإثارة الفتن واستحكام الفوضى عند الآخرين، وشتان بين البيئة الصحية والبيئة الموبوءة، وبين عوامل البناء والاستقرار ومعاول الهدم والدمار.
ويؤكد ذلك واقع الحال في العراق وسوريا ولبنان وما يحصل الآن في اليمن، واعتراف إيران على لسان أكثر من مسؤول فيها بوجود قوات مقاتلة لهم في هذه الدول، واعتبار عواصمها تحت السيطرة الإيرانية، وأنها أصبحت مجالاً حيوياً لهم، والدول الكبرى لا تنكر عليها ذلك بل تتفاوض معها عليه، معتبرة المنطقة العربية وشعوبها وجبة دسمة للمقايضة والمساومة.