اللواء الركن م. سلامة بن هذال بن سعيدان
بادي ذي بدء فإنه لا يُوجد نعمة إلا ولها حاسد، ولا تعرف قيمة المنحة إلا من خلال مكابدة المحنة، ومن المعروف أن منغصات الداخل وتهديدات الخارج بالنسبة للدول شأنها شأن مكاره الحياة فيما يخص الأفراد، ويمكن تقسيم هذه المكاره إلى ضربين، أحدهما فيه حيلة ظاهرة والاضطراب دواؤه، والآخر حيلته مستترة والاصطبار شفاؤه، والمبادرة والتكيُّف مع الظروف لتطويع المصاعب وتذليل المتاعب لا مندوحة عنها لمواجهة القسم الأول، في حين أن الوقت والصبر واستغلال الفرص كفيلة بالتغلب على القسم الثاني، وتحييد مضاره وإصلاح مساره.
وثمة أمور يصعب التحرُّز من مكروهها، والتوقع لمحبوبها لخروج هذه الأمور عن قصد الإرادة وواقع التجربة، وتفاعل الأشياء فيما بينها، والمصادفات غالباً هي التي تتحكم في حدوثها والاستعانة بالله وطلب توفيقه خير معين للتعامل مع هذه الأمور، وقد قال الشاعر:
ترى المرء في بعض الأحايين راضياً
وبعد قليل شاكياً يتذمر
إذا استيقظت في المرء روح لطارئ
فعندئذ أخلاقه تتغير
والفتن التي تعصف بالمنطقة العربية وما يتعرض له المنتمون إلى العرق العربي والمذهب السني من تصفيات ممنهجة، وما يمارس ضدهم من ممارسات مؤدلجة،كلها أمور تمثّل مزيجاً من هذه المكاره التي لم تعد المملكة في منأى عن إفرازاتها وإرهاصات تهديداتها.
والأخذ بالأسباب لمعالجة المنغصات الحاصلة وتحجيم آثارها وتقليل تأثيرها، يُشكّل ذلك ركيزة أساسية وأرضية صلبة لمقاومة التهديدات الماثلة، والتصدي لها ودرء أخطارها، والدولة التي تحرص على أن يكون أمنها في مأمن عن تهديد الآخرين، لا بد أن تتوفر لها القدرة على تهديد أمنهم، وأن تمتلك قوة ردع تمكِّنها من إبطال مفعول التهديد المقابل، والتلويح بإمكاناتها ومدى مصداقيتها على فرض المشيئة على الخصم عن طريق المزاوجة حيناً والموازنة أحياناً بين سياسة القوة وقوة السياسة، ولله در القائل:
ما أقبح الإنسان يقتل جاره
ويقول هذي سنة العمران
لا حق إلا ما تؤيده الظبى
ما دام حب الظلم في الإنسان
والتاريخ حافل بالأحداث التي يمكن الاستفادة منها، والسير على هديها، والاعتبار مما حصل لأطرافها، وما يعنيه ذلك من اكتساب التجارب والعبر من الأحداث المتماثلة، وتلك الظروف المنتظر حدوث أشباهها ونظائرها، وتحليل الأحداث ومعرفة قيمتها التجريبية وأسلوب تطبيقها يمهد السبيل لجعلها معلْماً يستدل به ونقطة مرجعية يسترشد بها، وبفضل هذا التحليل يستطيع المحلل الاستفادة من مكامن القوة ومواطن الضعف عند الآخرين، واستخدام الماضي والحاضر جسراً يعبر من خلاله لاستشراف المستقبل، وعندئذ تصبح تجارب غيره ملكاً له، ويستعرض أحداثها وكأنه مباشرٌ لها بنفسه، لما توفر له من خبرة تمكنه من توقع الأحداث قبل وقوعها عارفاً جدواها ومعالجاً لها معالجة الاختصاصي المتمرس والخبير المحترف، وقد قال الشاعر:
بذا قضت الأيام ما بين أهلها
مصائب قوم عند قوم فوائد
وفي الشهر الماضي بينما كان الوطن يعيش على وقع أحداث أمنية متلاحقة على حدوده الجنوبية والشمالية، وهي أحداث تزداد حدتها، وتتضاعف شدتها، ويتنامى خطرها يوماً بعد آخر، سواء في دول الجوار أو ضمن محيط الأمن القومي العربي، وفي خضم الاختلالات الأمنية، وغمرة الأطماع الإقليمية، وما يحركها من تجاذبات سياسية، واستقطابات دولية ويغذيها من أعمال إرهابية، تتحكّم جميعها في مصير شعوب المنطقة، ومع وجود كل هذه التهديدات والتحديات فقدت الأمة أحد قادة مسيرتها ورواد نهضتها، وهو الملك عبد الله بن عبد العزيز - غفر الله له -، وأسكنه فسيح جناته، لقاء ما له من أثر في الأرض يبقى، وأجر - بإذن الله - إلى السماء يرقى، وكان العزاء في هذا المصاب الجلل، أن شجرة الملك أصلها ثابت وفرعها في السماء، كلما سقط منها غصن حل محله غصن آخر، وهذا الغصن هو خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز، الذي هو خير خلف لخير سلف، حاملاً للراية وقائداً للأمة، وعليه انعقد الأمل، وله انعقدت البيعة، ووجبت له الطاعة.
والملك سلمان يُجسِّد أملاًَ مرتقباً وخيراً محتسباً ورصيداً مكتسباً، إذ إنه بالجميل معروف وبالمعروف موصوف، فهو أحد رموز الحكم وأعمدة الدولة، وله باع طويل في ممارسة السلطة وخبرة عريضة في السياسة، على النحو الذي أهّله للإسراع باتخاذ القرارات واختصار الزمن والمسافات.
وقد استهل الملك سلمان العهد الجديد بالإسراع في إزالة بعض مصادر المنغصات، بغية السيطرة على مضمارها، واحتواء آثارها، وذلك بإصدار أوامر سامية، أعاد من خلالها هيكلة الدولة وترتيب مؤسساتها، وتجديد آلية عملها، وبث الروح فيها من جديد، وضخ دماء شابة في قمة هرم السلطة، وشغله الشاغل، ومحط اهتمامه، هو تثبيت أركان الاستقرار، وتعهد عوامل الازدهار، وإكمال مشوار الاستمرار، وحتى يتحقق الهدف جعل على رأس قائمة أولوياته معالجة المنغصات الداخلية ومقاومة التهديدات الخارجية، وكما قال الشاعر:
لكل شعب رجال ينهضون به
إلى المعالي وكم يأتون من عجب
والأوامر السامية التي صدرت، وما رافقها من تعيينات فيها تأكيد على تصميم القيادة الجديدة وعزمها على المحافظة على ثوابت الأمة، وعلى رأسها الانتماء الديني والهوية الوطنية التي تدعم هذا الانتماء، وهذا التوجه لا يدع مجالاً للشك في إصرار هذه القيادة على عدم التساهل في هذا الأمر، أو السماح لأحد بالنيْل من دستور الوطن، أو المساومة على معتقد المواطنين، وذلك إدراك من هذه القيادة بأن المُلك بالدين يبقى والدين بالمُلك يقوى، وأن أحدهما توأم للآخر ولا يستقيم الأمر لأحدهما إلا بوجود الثاني.
والأمة تستمد قوتها، وتأخذ مكانتها كلما تمسكت بدينها، وحافظت على وطنيتها، وغالباً ما تجد كل صاحب هدف سياسي أو وطني يغلف مطلبه بالدين، فيحتج بالدين ويغضب للدين، حتى لو لم يكن هدفه دينياً، متخذاً من انتمائه الديني مبرراً لما يقدم عليه، مما يدل على قيمة الانتماء الديني في النفوس وتأثيره وفاعليته على توجيه الأحداث، وإضفاء طابع الشرعية عليها، وهذه المثلبة البشرية محسوبة على أصحابها لا على الدين، ولا تقلل من قيمة المنقبة الدينية والميزة الانتمائية والخير مقرون بالاعتدال، والسلامة مناطة بالوسطية، وإذا اجتمع العدل مع الطاعة تحقق صلاح الأمة وفلاحها ونجاح مسيرتها، وكما قال الشاعر:
الكتب والرسل والأديان قاطبة
خزائن الحكمة الكبرى لواعيها
وكل خير يلقى في أوامرها
وكل شر يوقى في نواهيها
تخلّق الصفح تسعد في الحياة به
فالنفس يسعدها خُلقٌ ويشقيها
واستحقاق الإنسان في الحياة مرهونٌ بكرامة الوطن والارتقاء به عن كل ما يشينه، ويقلل من شأنه، ولن يتأتى له ذلك في ظل المطالب التعسفية، وركوب موجة المماحكات والمزايدات على حساب حاضر الوطن ومستقبله، إذ إن أمن الوطن واستقراره وازدهاره واستمراره، كلها عوامل تقوم على صدق الانتماء إليه والإيمان بعمق الصلات التي تربط المواطن بوطنه، وتجعله يضحي بالنفس والنفيس من أجله، وأن هذه الصلات تتجاوز الصلات الجغرافية، والاعتبارات المناطقية، والحدود المكانية، إلى صلات حياتية وعلاقات مصيرية وروابط روحية مقدسة.
والوطن هو المحرك الأساسي لمشاعر المواطن، وحوافزه نحو بلوغ الكمال وتحقيق الآمال، ومدلول كلمة وطن يختصر كل الأبعاد العاطفية والنفسية للمواطن، ووحدة انتمائه، ويرتبط بهذا المدلول قيم أخلاقية ومُثُل مشتركة ومبادئ متبادلة ترتكز على مفهوم الوطنية الحقّةُ، ويتكون منها مجال المواطنة الصالحة بجميع مدلولاتها ومضامينها وحيثياتها وهي قيم ومُثُل ومبادئ لا غنى للمواطن عن الالتزام بها، والتحرك داخل دائرتها والاسترشاد بها حتى يكون مواطناً صالحاً يفيد وطنه وأمته بعمله وإنتاجه، ويشكّلُ عضواً فاعلاً في مجتمعه، وشتان بين هذا المواطن وبين مَنْ يدَّعي المواطنة ويتغنى بالوطنية وهو لا يمثل وطنه تمثيلاً حسناً، ولا يعرف من وطنيته إلا اسمها، ولا من هويته إلا رسمها.