د. عمر بن عبدالعزيز المحمود
وهكذا مرَّت أيام معرض الكتاب العشرة كالحلم، ونجحت كعادتها وزارة الثقافة والإعلام في تنظيم هذه التظاهرة الثقافية الاستثنائية، وهو نجاح ليس غريباً على جهود بُذلت، واستعدادات جادة، ربما بدأت مع نهاية المعرض في العام الماضي، ورغم كل هذا النجاح إلا أنَّ هذا لا يمنع من تدوين بعض الملحوظات والرؤى والأفكار التي لاحظتها في هذا العام، وهي ملاحظات تكررت في أعوام ماضية، لذا رأيتني مضطراً إلى اقتباس كثيرٍ مما كنت قد كتبته في الأعوام الماضية عن المعرض.
قلت فيما سبق: إنه قبل رصد ما يمكن رصده من مشاهد ومشاهدات وإيجابيات وسلبيات في هذا المعرض البديع أرى لزاماً عليَّ وعلى كل منصف أن يتقدَّم بالشكر الجزيل والتقدير العاطر لوزارة الثقافة والإعلام بقيادة وزيرها الشاب التي أحسبها لم تألُ جهداً في عمل كل ما يمكن عمله لإنجاح هذه التظاهرة الثقافية الاستثنائية، وحرصها على أن تظهر الرياض ككل عام مرتدية أجمل حلل الجمال الفكري والتألق الحضاري خلال تلك الأيام العشرة التي كانت بفضل الله ثم بفضل تلك الجهود أشبه بلآلئ حضارية وجواهر ثقافية من عقد عام عاصمتنا الحبيبة الذي اعتاد أن يتحلَّى بها فتتجلَّى في كل سنة جديدة، تاركة في كل عام إرثاً ثقافياً وحضارياً يتجدَّد في كل مناسبة.
وحين تتحدث الأرقام فإنها تؤكد هذا النجاح الكبير للمعرض، فقد وفَّر أكثر من 600 ألف عنوان، واستضاف أكثر من 900 دار نشر، توزعت على 31 دولة، أما الزوار فقد تجاوز عددهم مليوني زائر من مختلف المناطق والدول، وقد استدلَّ بعض المثقفين بهذا الرقم الكبير لعدد الزوار على وجود تفاعل مستنير يحمل كثيراً من الدلالات التي تبعث شيئاً من الاطمئنان، مؤكدين أننا بالفعل أمة تقرأ وتقرأ، وتدرك بالفعل أهمية الفعل القرائي والممارسة الثقافية إلى حدٍّ كبير، وأنَّ في ذلك دلالات ترد بقوة على تلك النظرات التشاؤمية التي تتهمنا بأننا لسنا كذلك، مدعية أن هذا الإقبال الكبير على مثل هذه المعارض ما هو إلا فعلٌ اجتماعيٌّ جاذب للجمهور أكثر من كونه دافعاً ثقافياً حقيقياً.
وفي ظني أنَّ هذا الاستدلال غير دقيق، فليس بالضرورة أن تكون ضخامة عدد الزوار عاكسة لوعي ثقافي وقرائي وصل إليه المجتمع، ولو دققنا النظر في أكثر الكتب التي أقبل عليها (المتسوّقون)، وعرفنا من هم أصحاب تلك الكتب وما هي تجاربهم وخبراتهم الثقافية، وفتّشنا عن الموضوعات التي تحملها والأفكار التي تتضمنها لربما تراجع كثير من أصحاب هذه النظرة التفاؤلية عنها!
ونبهت سابقاً وما أزال إلى ظاهرة مخجلة بدأت تبرز في المعرض في سنواته الأخيرة، وهي ظاهرة استسهال الإصدار والطباعة، وامتلاك الجرأة على النشر من قِبل أشخاص لا ناقة لهم بالكتابة ولا جمل، ولا يمتون إلى أي نوع من الثقافة بأدنى نسب، يدفعهم إلى ذلك شغفهم المجنون بالشهرة، وشدَّة انبهارهم بالأضواء حدَّ الشفقة، وحرصهم المضحك على مزاحمة المثقفين الحقيقيين وتدوين أسمائهم بين زمرة الكتاب الذين قضوا الزمن الطويل لعرض عصارة تجاربهم وخبراتهم، ثم يأتي أولئك الذين لا يملكون أداة واحدة من أدوات الكتابة، ولم تمس تجاربهم النار فضلاً عن أن تنضج ويتبجحون بكونهم من كبار الكتّاب، وأنه تمكن من (تخريف) كتاب ليس فيه سوى سفاسف وهرطقات خدعوه بها فقالوا (إبداعٌ أدبي) و(فتوحٌ ثقافية) أو (روايةٌ عميقة) و(ديوانٌ استثنائي)!!
وأقول إنَّ هذه القضية انتشرت مؤخراً بشكل لافت، وصار تأليف أمثال هذه الكتب وإصدارها ونشرها موضة ركبها كثير من الشباب والشابات الذين وجدوا دُوراً تجارية تفتح أبوابها لهم وتطبل لسخافاتهم، ولا همَّ لها إلا الكسب المادي بعيداً عن الفائدة المعرفية وعمق التجربة الثقافية، واقرأ ملفات التعريف لكثير من الشباب والشابات في موقع التواصل (تويتر)، ستجد أنه يذيّل اسمه بعبارة (صاحب كتاب كذا)، أو (صدر لي كتابان)، وهلم شرا!! وليت الأمر يقف عند هذا، بل يتجاوزه لتجد كثيراً من الناس الذين أصيبت عقولهم بالخواء المعرفي وابتليت بالفقر الثقافي يقبل على هذه الهرطقات، ويتسابق على شرائها، فتنصب لكاتبها منصات التوقيع، وتجد القطعان صافين ينتظرون توقيعاً من كاتبهم الملهم!
أؤكد أيضاً في هذا السياق على ما أشرتُ إليه مراراً في الأعوام الماضية من مشاهد تستحق الفخر في معرض الكتاب، حيث ترى تلك المنظومة المتكاملة من الخدمات والمميزات والتسهيلات التي تُقدَّم على طبق من ذهب للزائرين والزائرات، سواء على مستوى التقنية؛ كسهولة الوصول إلى عناوين الكتب ومعلوماتها ودور نشرها، حيث أبدع المنظمون في التوظيف التقني الذي تمثّل في العرض الإلكتروني، مما يتيح للمستخدم استعراض منشورات الدور المشاركة، الأمر الذي يسهم في سرعة وصول الزائر إلى عناوينه المطلوبة، إضافة إلى التواصل إلكترونياً مع الناشرين للحصول على النسخ التي قد تنفد، أو على مستوى الخدمات العامة؛ كتوفير الأماكن الواسعة والمطاعم وتأجير العربات والحقائب، وهي خدمات تستحق أن تُذكر فتُشكر، فقد جعلت زيارة المعرض سياحةً جميلةً يستمتع بها الزائر وحده أو مع عائلته، بل إنَّ تلك الخدمات تشجِّع على تكرار الزيارة، والدعاية لها، ولا تجعل القادم من خارج الرياض يندم لحظةً واحدةً على قطع المسافات لزيارة هذه الدُّرَّة التي تتزيَّن بها الرياض طوال عشرة أيام.
قلتُ أيضاً: ولأنَّ التطوير والتحسين لا يقوم فقط على ذكر المحاسن وإبراز الإيجابيات، بل لا بُدَّ من التوقُّف عند السلبيات وجوانب التقصير والأخطاء التي لاحظتها ولاحظها غيري مما قد ينغِّص شيئاً ما على الزائر سياحته الماتعة في أرجاء هذا المعرض المتألق، لأجل ذلك أشير هنا إلى بعض السلبيات، راجياً من المنظمين التنبه إلى هذه الأمور، والسعي إلى تجاوزها في المعارض القادمة؛ ليظهر المعرض في كامل حلته وتمام جماله وتألقه.
من ذلك ما ذكرته ولا أزال أكرره ويؤكِّد عليه كثيرون فيما يتصل بشأن (الأسعار)، فهي إشكاليةٌ حاضرةٌ في كلِّ عام، وعندي يقينٌ أنَّ هذه الإشكالية لا يمكن أن تحلَّ جذرياً ما لم يكن هناك وقفةٌ حازمةٌ جازمةٌ من وزارة الثقافة التي أحسب أنها غير عاجزةٍ عن ذلك، فبدلاً من أن يصبح الكتاب صناعةً وثقافةً أضحى تجارةً وتكسُّباً، ولا شك أنَّ غياب الرقيب واختفاء الحسيب هو الذي جعل بعض دور النشر تغالي في الأسعار في وضح النهار.
ومن الأمور التي كنت قد تمنيت الانتباه إليها مستقبلاً في المعارض القادمة سعي دور النشر إلى ترتيب الكتب المعروضة وتنسيقها بدلاً من البعثرة والفوضى التي تشتِّت الزائر وتشوِّه المنظر، وكان الأجدى على هذه الدور الفوضوية أن تضع لافتات فوق كلِّ زاويةٍ من زواياها يحمل اسم التخصص الذي تندرج تحته المجموعة من الكتب، وليت كلَّ دار تكشف في كلِّ عامٍ عن إصداراتها الحديثة وطبعاتها الجديدة، وكلُّ ذلك من شأنه أن يوفِّر الجهد والوقت على الزائر بصورةٍ كبيرة.
ومن الأمور التي خلطتْ فيها الوزارة عملاً صالحاً بآخر سيئاً ما رأيناه من تنظيمٍ جميلٍ للقاءات والأمسيات الثقافية التي أُقيمت على هامش المعرض، فقد أسهمت في زيادة توهجه المعرفي وثرائه العلمي، وجعلت لياليه تنبض ثقافة وفكراً، غير أنني أدوِّن هنا ثلاث ملاحظات في هذا السياق، الأولى: أنَّ أغلب هذه المحاضرات والندوات التي كانت تعقد في تلك الأيام والليالي توجَّهت في خطابها إلى التخصُّص الدقيق، وهو ما يفقدها جمهوراً عريضاً كان يمكن أن تكسبه لو أحسن القائمون اختيار موضوع هذه المحاضرات.
أما الملاحظة الثانية فهي أنَّه رغم ما قدَّمته وزارة الثقافة والإعلام من جهدٍ كبيرٍ في تنظيم هذه المحاضرات والندوات إلا أنَّ قناتها الثقافية لم تبثَّها على الهواء، بل تجاهلت بعضها، ولم تُعِدْ بثَّها حتى بعد أن تقوم بمونتاجها، وهو أمرٌ يثير كثيراً من التساؤلات!.. وهذا يقودني إلى الملاحظة الثالثة التي تستغرب تقاعس القنوات التلفزيونية المحلية عن نقل هذا الحدث الضخم والمناسبة الحضارية التي تتشرَّف بها العاصمة وتفتخر باستضافتها في كلِّ عام، فباستثناء القناة الثقافية لم نجد من قنواتنا من يعطي هذه المناسبة الضخمة حقها من الأضواء، فمن يتابع القناة الأولى أو الإخبارية لا يرى أي أثر لتغطية لهذه الفعالية، وكان بإمكان المسؤولين في القناتين استثمارها وتسليط الضوء عليها، ولربما كانت فرصة لهما لتجديد ما تُقدِّمانه من برامج وحوارات تتكرَّر في كل وقتٍ ولا تُقدِّم جديداً ذا بال، ولا غرو أن انخفضت أعداد مشاهدي هذه القنوات التي لا تستثمر مثل هذا المنجز الوطني والحضاري لجذب المشاهدين ومعايشة واقعهم ومناسباتهم.
وأخيراً.. شُكرٌ خاص متكرر لوزارة الثقافة والإعلام على بذلها كل الجهود الممكنة لإنجاح هذه التظاهرة الثقافية الرائعة، لتظهر الرياض في كلِّ عامٍ مُتلفِّعةً بأثواب الجمال الفكري والتألق الحضاري، وكُلُّ عَامٍ والرياضُ كِتَابٌ وثقافةٌ وأصالةٌ وحضارةٌ وفكرٌ.