د.عيد بن مسعود الجهني
خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز - حفظه الله - يملك رؤية واضحة وقراءة متميزة لحركة التاريخ؛ لذلك فإن من يدقق في خيوط بعض خطابه التاريخي الموجَّه للأمة يدرك أن الملك سلمان صاحب ثقل مؤثر وخبرة نادرة وتجارب طويلة تدرك كل المستجدات على الساحات المحلية والإقليمية والدولية. فهو زعيم عالمي قوي، عُرف بمواقفه الواضحة والصادقة، لا تناقض في أقواله، ولا في مواقفه؛ ويرجع ذلك إلى نشأته الدينية، وطبيعته التي تتسم بالوضوح والصراحة.
ونحن إذ نقول ذلك لا نلقي الكلام على عواهنه، ولا نقول جزافاً، ولكن نعتمد على المشهود من مواقفه، والموثق المحفوظ من أقواله منذ كان أميراً لمنطقة الرياض، ثم وزيراً للدفاع، ليصبح بعد ذلك ولياً للعهد نائباً لرئيس مجلس الوزراء ووزيراً للدفاع، ثم مبايعته ملكاً بعد انتقال أخيه الملك عبد الله بن عبد العزيز إلى جوار ربه.
وقد استهل خادم الحرمين الشريفين توليه مقاليد الحكم بإصدار سلسلة من الأوامر الملكية المهمة في تاريخ البلاد، منها منح موظفي الدولة مدنيين وعسكريين مرتب شهرين ومكافأة شهرين لجميع الطلاب والطالبات في التعليم الحكومي في الداخل والخارج، إضافة إلى صرف راتب شهرين للمتقاعدين على نظام مؤسسة التقاعد والتأمينات الاجتماعية، ودفع عجلة الضمان الاجتماعي الذي خصص صرف مكافأة شهرين لهم وتعديل سلم رواتبهم للأحسن.
أما المعاقون فقد شملهم أيضاً برعايته الأبوية؛ إذ خصص لهم صرف مكافأة إعاقة راتب شهرين، مع ضم قوائم الانتظار للمعاقين لإعانتهم، إضافة إلى صرف ملياري ريال دعماً للجمعيات الخيرية المرخصة من قِبل وزارة الشؤون الاجتماعية، ودعم مجلس الجمعيات التعاونية بمبلغ (200) مليون ريال، ناهيك عن دعم مالي سخي للجمعيات المهنية المتخصصة المرخص لها بمبلغ (10) ملايين ريال لكل جمعية، مع دعم الأندية الأدبية كافة بالمملكة بمبلغ (10) ملايين ريال لكل نادٍ. كما أن الأندية الرياضية هي الأخرى شملها الحنو الأبوي؛ إذ خصص مبلغ (10) ملايين ريال لكل نادٍ بالدوري الممتاز، ومبلغ (5) ملايين ريال لكل نادٍ من أندية الدرجة الأولى، ومبلغ مليونَيْ ريال لبقية الأندية المسجَّلة. وشملت المكرمة الملكية العفو عن سجناء الحق العام طبقاً للقواعد المطبقة بوزارة الداخلية.. إلخ.
المملكة العربية السعودية، القارة المترامية الأطراف، حدودها مع ثماني دول، هي امتداد للدولة السعودية الأولى التي أسسها الإمام محمد بن سعود - رحمه الله - والدولة السعودية الثانية التي أسسها الأمير تركي بن عبد الله - رحمه الله -. هذه الدولة دستورها القرآن الكريم والسنة النبوية؛ فهما أساس الحكم في المملكة العربية السعودية، وهذا ما نصت عليه المادة (1) من النظام الأساسي للحكم الصادر بالأمر الملكي رقم أ/ 91 بتاريخ 27-8-1412هـ؛ إذ نصت تلك المادة على أن (المملكة العربية السعودية دولة عربية إسلامية ذات سيادة تامة، دينها الإسلام، ودستورها كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم).
الملك سلمان بن عبد العزيز - حفظه الله - في كلمته التاريخية الثلاثاء 20 جمادى الأولى الموجهة لإخوانه وأخواته المواطنين، وإلى المسؤولين كافة في الوطن الكبير، ربط الماضي المشرق بالحاضر والمستقبل الواعد - بإذن الله -. وفي تلك الكلمة الملكية العميقة عرض كل القضايا على جميع المستويات بدقة ووضوح متناهيين. الكلمة موجهة إلى مواطنيه بكل أطيافهم من مسؤولين وقادة إداريين وموظفين مدنيين وعسكريين وطلاب وغيرهم، مؤكداً - حفظه الله - لإخوانه وأخواته جميعاً غداً واعداً مشرقاً مزدهراً - بإذن الله -.
ولأن الفرد هو محور اهتمام الدولة كانت كلمة خادم الحرمين الشريفين تصب في هذا المفهوم المهم؛ ولذلك وجَّه المجلسَيْن الأمني والسياسي والاقتصادي والتنموي بالتواصل المباشر مع جميع أمراء المناطق عبر ولي ولي العهد النائب الثاني لرئيس مجلس الوزراء وزير الداخلية الأمير محمد بن نايف بن عبد العزيز، وتواصل أمراء المناطق مع المواطنين، الذين أُسست أجهزة الدولة لخدمتهم التعليمية والصحية، وتوفير العمل اللائق والمسكن الملائم لهم، ودعم وتشجيع المؤسسات المتوسطة والصغيرة. ومن أجل ذلك جاءت أهمية مراجعة الأنظمة الرقابية للحد من الفساد ومحاسبة المقصرين.. إلخ.
ولأن الإعلام في هذا العصر بلغت أهميته الثريا فإن خادم الحرمين الشريفين أكد ضرورة قيامه بدوره مانحاً الفرص للتعبير عن الرأي، ونشر الحقائق بموضوعية، والامتناع عن نشر ما يثير الفُرقة. ولارتباط اقتصاد البلاد بإيرادات النفط التي تشهد انخفاضاً حادًّا فإن خادم الحرمين في خطابه الاستراتيجي أبان بوضوح عزم الدولة على العمل على الحد من تأثير انخفاض الأسعار على التنمية المستدامة.
ولأن المملكة رائدة العالم العربي والإسلامي، ولها دورها المؤثر في المجتمع الدولي، فإن خادم الحرمين الشريفين في كلمته الضافية أوضح موقف بلاده من قضية العرب الأولى فلسطين، وأهمية التضامن العربي والإسلامي لدعم قضايا العرب العادلة، كما أن دحر الإرهاب يُعد أحد المحاور الرئيسية للسياستين الداخلية والخارجية؛ لذا فإن هذه القضايا المهمة أخذت مكانتها في تلك الكلمة الملكية العميقة والجزلة؛ ولذلك فإن قراءتها وتحليلها يحتاجان إلى كتب ومجلدات، لكننا سنحاول إلقاء الضوء على بعض جوانبها بإيجاز.
خادم الحرمين الشريفين - حفظه الله - ربط الماضي المشرق بالحاضر والمستقبل المزدهر - بإذن الله جلّت قدرته -، ورسم استراتيجية مدروسة بدقة متناهية اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً وأمنياً واجتماعياً على المستوى الداخلي والعلاقات الخارجية في خطاب تاريخي يرسم خطوط الحاضر والمستقبل المفعم بالعمل والأمل.
المؤسس والموحد والمصلح الملك عبد العزيز - رحمه الله - بنى قارة كبيرة، بدأها فجر الخامس من شهر شوال 1319هـ باستعادة ملك الآباء والأجداد (الرياض) عاصمة البطولات والتاريخ، التي انطلقت شعلة توحيد المملكة العربية السعودية من على ترابها، وتلقف التاريخ الحدث الكبير.. وأصبحت الرياض محط أنظار دول العالم، والرياض عاصمة كبرى، تضاهي كبرى مدن العالم، وتصل مساحتها إلى أكثر من 3000 كم مربع.. فريدة في ميدان فن العمارة والتخطيط والتصميم.. فريدة في التطور العمراني والحضاري وحقول العلم والمعرفة.
وإذا ذكرت الرياض فلا بد أن نذكر خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز المستنير بنور الدين.. المثقف المتسلح بالعلم؛ فهو العقل المدبر الذي قاد الرياض في السلم والحرب، وعُرف بقدرته على إدارة الأزمات، وأشرف بنفسه على استضافة شعب الكويت الشقيق قادماً إلى المملكة، كما أشرف على توديعه عائداً إلى وطنه محرراً، كما أنه وراء كل خطوة خطتها الرياض في التطور والتحديث والازدهار.. وبهذا الأسلوب القيادي والإداري الخلاق أصبحت إمارة منطقة الرياض تمثل نموذجاً واضحاً لما يجري في جميع مناطق المملكة.
ومنذ طلوع ذلك الفجر المنير بدأت مسيرة التوحيد ليعلن الملك عبد العزيز - رحمه الله - تأسيس المملكة العربية السعودية عام 1351هـ بعد نضال وكفاح بطولي على مدى أكثر من ثلاثين عاماً؛ لتصبح بلادنا الغالية أول وحدة عربية حقيقية، وليصبح اسم المملكة العربية السعودية شاملاً لأسرة قائد الوحدة الوطنية، والكيان الكبير يجتمع عليه الجميع.
هذا المعنى الواسع وضحه الأمير أحمد بن عبد العزيز قائلاً:
((كانت بلادنا مقسمة إلى إمارات صغيرة، وقد تم اختيار هذا الاسم من قِبل أهل الرأي والوجهاء والأعيان في ذلك الحين؛ لأنه اسم شامل لأسرة قائد الوحدة الوطنية يجتمع عليه الجميع)).
ولذلك فإن خادم الحرمين الشريفين الذي بشر مواطنيه بغد واعد مشرق مزدهر بإذن الله تعالى، قال:
(لقد أسس الملك عبد العزيز - رحمه الله - وأبناء هذه البلاد دعائم هذه الدولة، وحققوا وحدتها على هدى من التمسك بالشرع الحنيف واتباع سُنة خير المرسلين صلى الله عليه وسلم، وخلال العقود التي تلت مرحلة التأسيس إلى عهد خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز - رحمه الله - ودولتكم تسير على خطى النمو والتطور بكل ثبات، مع التمسك بعقيدتها الصافية، والمحافظة على أصالة هذا المجتمع وثوابته).
واستطرد خادم الحرمين الشريفين في كلمته التاريخية قائلاً:
(لقد مَنّ الله على هذه البلاد بشرف خدمة الحرمين الشريفين، وحرصت المملكة منذ نشأتها على القيام بواجبها ومسؤوليتها، بما يخدم الإسلام، ويحقق تطلعات المسلمين في دوام الراحة والطمأنينة لهم في أداء مناسك الحج والعمرة بكل يسر وسهولة).
هذه هي بلاد الحرمين الشريفين التي قامت على ركائز ثابتة وأصول إسلامية راسخة في الإسلام عقيدة وشريعة وديناً ودنيا، يعني بالفرد عنايته بالمجتمع، وبالمادة عنايته بالروح، وما فرط ربنا في الكتاب من شيء.
ولذا فإن المملكة العربية السعودية قامت على ركائز ثابتة وأصول إسلامية راسخة، منها:
(1) عقيدة التوحيد التي تجعل الناس يخلصون العبادة لله وحده لا شريك له.
(2) شريعة الإسلام التي تحفظ الحقوق والدماء، وتنظم العلاقة بين الحاكم والمحكوم، وتضبط التعامل بين أفراد المجتمع، وتصون الأمن العام.
(3) حمل الدعوة الإسلامية ونشرها؛ إذ إن الدعوة إلى الله أعظم وظائف الدولة الإسلامية وأهمها.
(4) إيجاد بيئة عامة صحية صالحة مجردة من البدع والانحراف، تعين الناس على الاستقامة والصلاح.
(5) تحقيق الوحدة الإيمانية التي هي أساس الوحدة السياسية والاجتماعية والجغرافية.
(6) الأخذ بأسباب التقدم وتحقيق النهضة الشاملة التي تسير حياة الناس ومعاشهم، وتراعي مصالحهم في ضوء هدى الإسلام وتعاليمه.
(7) تحقيق الشورى التي أمر الإسلام بها، ومدح من يأخذ بها؛ إذ جعلها من صفات المؤمنين.
(8) أن يظل الحرمان الشريفان مطهرين للطائفين والعاكفين والركع السجود - كما أرادهما الله بعيدين عن كل ما يحول دون أداء الحج والعمرة والعبادة على الوجه الصحيح - وأن تؤدي المملكة هذه المهمة قياماً بحق الله وخدمة الأمة الإسلامية.
(9) الدفاع عن الدين والمقدسات والوطن والمواطنين والدولة.
فالمملكة قامت بتطبيق الشريعة الإسلامية، وتبلورت معالم تطبيق مبادئها، وانعكس مردودها في تحقيق الأمن والاستقرار والتطور والتنمية المستدامة الشاملة التي حققت الخير للوطن والمواطنين، وأقامت نظام الحكم فيها على أساس مبادئ الإسلام ونشر دعوته، إلى جانب تهيئة الرخاء والرفاهية، والعمل على خدمة الشعب وإسعاده مستهدفة تحقيق التنمية الاجتماعية والاقتصادية اللازمة. وما من شك في أن مؤدى ذلك كله هو بروز أهمية الدور التنموي في المملكة العربية السعودية.
ومن هذه المبادئ الإسلامية خاطب خادم الحرمين الشريفين مواطنيه ((دولتكم تسير على خطى النمو والتطور بكل ثبات مع التمسك بعقيدتها)).
وللحديث بقية..
والله الموفق.