سألني كثيرون سؤالاً محدداً هل عصابة (داعش) الإرهابية أو ما يسمى (الدولة الإسلامية في العراق والشام) تعد دولة؟ إذ يتصور البعض كما تنقل بعض وسائل الإعلام خاصة الأجنبية أن هناك دولة بالفعل.
وحقيقة الأمر في ظل مفهوم الشريعة الإسلامية والقانون الدولي أنها ليست سوى كونها سوى منظمة إرهابية مثلها مثل القاعدة وحزب الشيطان في لبنان والحوثيون في اليمن، ولكي نجيب على هذا السؤال الهام طبقا لمفهوم الدولة في الإسلام والقانون الدولي لا بد من توطئة مختصرة لهذا الموضوع.
إن تعيين إقليم الدولة بوضع الحدود عليه لم تتبلور في صورتها الحاضرة إلا في نهاية العصور الوسطى وبداية ظهور الإدراك القانوني للدولة في شكلها الحديث، ومع بزوغ شمس القرن السادس عشر الميلادي طرأ على مفهوم الدولة تحول كبير فأخذت الحدود ترسم معالمها بشكل أوضح وأصبحت رمزاً للاستقلال الوطني وممارسة فعلية للسيادة بحيث يمكن تشبيه الدولة التي لا تحيط بها حدود بالمنزل الذي لا تحيط به جدران تحميه.
وقد تناول الفقه الإسلامي الحدود التي تفصل أية دولة عن دولة أخرى وعبر عنها في التراث الإسلامي بألفاظ مثل الثغور والحصون والرباط الذي عرفه ابن حجر العسقلاني بأنه (ملازمة المكان الذي بين المسلمين والكفار لحراسة المسلمين منهم).
والحدود أو (الثغور) و(الحصون) في الفقه الإسلامي تقع على أطراف دار الإسلام وتتيح لها حماية الأمة، ويذكر الماوردي أن من أهم واجبات الإمام - إلى جانب حفظ الدين وتعميم العدل - تحصين الثغور بالعدة المانعة والقوة الدافعة حتى لا يظهر الأعداء بغرة ينتهكون فيها محرما أو يسفكون فيها لمسلم أو معاهدا دما.
وقد عرف التاريخ الإسلامي نظما إدارية ومالية دقيقة لإدارة الثغور وإعدادها فعلى الصعيد الإداري اختص بإدارة الثغور الأمراء وولاة الأقاليم الذين تولوا غالبا قيادة الجيش والقيام بمهام الدفاع.. أي أنهم جمعوا بين المسئوليات الإدارية والفنية.
يتضح أن فكرة الحدود السياسية في داخل الإسلام كانت تقوم للتمييز بين مجموع الأقاليم التي كانت تضمها دار الإسلام من جهة وبين أقاليم دار الحرب أو دار العهد من جهة أخرى، ومع ذلك كانت تقوم داخل دار الإسلام حدود إدارية لتعيين مختلف الأقاليم والولايات التي كانت تعرف بأسمائها، واستمر الوضع على هذا الحال أيام الحكم العثماني الإسلامي.
وعندما بدأ نجم الامبراطوية العثمانية يدخل في الغروب بدأت مختلف الدول الأوربية تقتطع من الامبراطورية إقليما بعد إقليم، سواء عن طريق الحرب أو عن طريق الاتفاق وتضع للقطاع الحدود التي يتراءى لها وضعها، وعند قيام الحرب العالمية الأولى بدأت تصفية الامبراطورية العثمانية، وانتهت هذه التصفية بعد هزيمة الامبراطورية في تلك الحرب، وتم تقسيم أقاليمها اسلابا بين الدول الحليفة الرئيسية بزعامة بريطانية وفرنسا آنذاك.
ولا شك أن الحدود السياسية لها أهمية قصوى في تحديد كيان الدولة كوحدة سياسية قائمة بذاتها إضافة إلى أهميتها في تحديد علاقاتها السياسية والاقتصادية والحضارية مع الدول المجاورة، وسلامة الدول تكمن في سلامة حدودها مع جيرانها ومدى فعالية تلك الحدود.
كما أن مشكلة النزاعات حول الحدود السياسية بين الدول تعد في مقدمة أهم المصادر الرئيسية للصراع الدولي، وتأتي منازعات الحدود لتشكل أهم عوامل إثارة النزاعات بين الدول وتصعيد الصراع السياسي بينها.
وأبرز مثال لقضية حدودية عبرت عن حالة العدوان الصارخ هي قضية الحدود الكويتية -العراقية التي اتخذتها القيادة العراقية آنذاك ذريعة لغزو الكويت وما تلا ذلك من أحداث، فقد بدأت هذه المأساة بإثارة قضية حدودية لدواع اقتصادية وما لبثت أن تطورت إلى احتلال دولة الكويت ونفي شرعية وجودها ككيان مستقل وقد حسم الموقف بقرار سعودي تاريخي لصالح الشرعية الدولية وبرز دور الأمم المتحدة في وضع الحدود بين الدولتين الجارتين، وقبل ذلك قامت حرب طاحنة استمرت ثماني سنوات بين إيران والعراق بسبب الحدود والثروة النفطية.
من هذا العرض المختصر يتضح أن الدولة لكي تقوم فلا بد لها من أركان أولها شعب دائم فلا يتصور قيام دولة بدون شعب الذي يكون من جميع الأفراد الذين يقطنون إقليم الدولة ويخضعون لسلطانها، والثاني أن يكون هناك إقليم محدد تختص به الدولة لتمارس فيه نشاطها الحيوي على وجه الدوام والاستقرار ولا يتصور قيام الدولة واكتسابها لوصف الشخصية الدولية ما لم يستقر شعبها على إقليم معين محدد.
أما الركن الثالث فهو السيادة التي تعني السلطة العليا للدولة التي تفرض نفسها على الجميع في الداخل وعلى مستوى السيادة الخارجية فإنها تتضح في نطاق أساسي مبدأ المساواة وعدم التدخل في شؤونها الداخلية، أما الركن الرابع فيتمثل في السلطة الحاكمة فلا بد أن تقوم على أمر الجماعة سلطة حاكمة لها الكلمة العليا في إقليم الدولة.
وبناء على تلك القواعد فإن منظمات إرهابية ترتكب صهوة الغلو والتطرف والإرهاب بل وتكفير الناس وإرغام البعض على اعتناق الإسلام أو دفع جزية أو طردهم أو قتلهم وقتل الرهائن والإعلاميين مهما كانت ديانتهم فإن هذا ليس من الإسلام دين الله الخالد، دين الوسطية (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا) البقرة 143، وقال تعالى (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ) الكافرون 6، ينبذ الغلو والتطرف والإرهاب لا يتعدى كونهم جماعات إرهابية لا يتوفر لها ركن واحد من الأركان المحددة لقيام الدولة، فهؤلاء جماعات صنفها المجتمع الدولي كمنظمات إرهابية، ناهيك أن المجتمع الدولي كون تحالفاً من (60) دولة للقضاء على داعش الإرهابية مثلا، وهذا التحالف ضعف التحالف تقريبا الذي قام بقيادة المملكة لتحرير الكويت (33) دولة.
لكن هذا التحالف لم ينجح حتى اليوم في زعزعة هذا التنظيم الإرهابي، لماذا؟ لأن المجتمع الدولي غير راغب حتى الآن في شن حرب على الأرض ضد الإرهابيين، ولو فعل فلن يطول عمر هذا التنظيم التكفيري إلا لأيام معدودات، والدليل القاطع ان أمريكا ومعها بريطانيا مثلا في عهد جورج بوش الابن وبلير أسقطا النظام العراقي صاحب المليون جندي خلال أيام.
لكن في علم الاستراتيجية العسكرية والمصالح نجد أن الدول العظمى وفي مقدمتها صديقتنا أمريكا ومعها روسيا تريدان حربا طويلة في ظل حرب باردة جديدة كل دولة عظمى تسعى لتحقيق مصالحها، وبذا فإن الأمر تغذية أياد خارجية وداخلية وفي مقدمتها بعض الدول العظمى وإيران الأخرى لها مصلحة ظاهرة فهي تعلن أن الإرهابيين هم من أهل السنة وأهل السنة الوسطية من ذلك براء براءة الذئب من دم يعقوب.
ودليل آخر أن السيد أوباما أعلن جهاراً نهاراً أنه لن يسمح لإرهابيي داعش أن يسقطوا بغداد، وقد نفذ الرجل بوعده، لكنه سمح بشجاعة أمريكية أن تسقط العاصمة اليمنية ومدن أخرى رئيسية في اليمن بيد الحوثيين رغم أن بلاده تصنف هذا التنظيم والقاعدة وحزب الله وداعش كمنظمات إرهابية، وهذه ازدواجية المعايير ولعبة المصالح وحرب باردة جديدة ميدانها أرض العرب، قد تستمر لسنوات عديدة كما صرح بذلك وزير خارجية ماما أمريكا مرات عدة.
ويبقى القول طبقا للقانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة وقبله مفهوم الشريعة الإسلامية أن هذه المنظمات الإرهابية الضالة ينتفي عنها مفهوم الدولة القانوني والسياسي، فالتعريف القانوني أنهم مجموعة إرهابية لا تعيش على سبيل الاستمرار على إقليم محدد وتدين بالولاء لسلطة حاكمة، وكل أركان الدولة (شعب دائم، إقليم محدد، السيادة، السلطة الحاكمة) طبقا لنظرية الدولة والأركان التي تقوم عليها، بالنسبة لهم منتفية، ولذا نجدهم ينتقلون من مكان إلى آخر عبر الحدود حتى يتم القضاء عليهم كإرهابيين يهددون أمن واستقرار الدول والشعوب.
ومحصلة القول إن داعش ومن على شاكلتها منظمات إرهابية تقوم على عدم إقامة العدل وارتكاب صهوة الظلم الذي هو معادل للشرك (إن الشرك لظلم عظيم) لقمان 13، ويقول صلى الله عليه وسلم (الظلم ظلمات يوم القيامة) مجمع الزوائد، وأصبح الوقوف في وجه مثل هذه التنظيمات الإرهابية واجب، عن ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته ويقتدون بأمره، ثم أنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، ليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل) رواه مسلم.
والله ولي التوفيق