م. خالد إبراهيم الحجي
إن المسؤولية التي تقع على المهندسين كبيرة لتحسين حياة الناس في العالم الذي يكتظ بالسكان حيث تجاوز عددهم اليوم ستة بلايين نسمة مع اختلاف استخدام الناس لمقومات الحياة الأساسية وتعقدها أكثر من الماضي بسبب التقدم والتطور في العصر الحديث،
ومع زيادة استخدام الناس للمواد الاستهلاكية أكثر من أي وقت مضى، ومع التقدم والتطور وكثرة الاستهلاك زاد التلوث في البيئة براً وبحراً وجواً، وفي الوقت نفسه قرَّبت وسائل التكنولوجيا المسافات البعيدة بالنسبة للمكان واختصرت الوقت بالنسبة للزمان، وتغلبت على كثيرٍ من الحواجز فأصبح العالم كالقرية الصغيرة وزاد التواصل والترابط بين سكان الأرض، ومن سلبيات التقدم والتطور إغفال التعاون مع نظم الطبيعة والأخذ في الاعتبار حماية البيئة والمحافظة على الحياة الفطرية السليمة، وتفيد الدراسات ويؤكد الواقع العملي أن التغيرات المناخية والبيئية التي تحدث على الأرض هي ضريبة التقدم والتطور، والتساؤل الذي يطرح نفسه بقوة في الوقت الحاضر: هل في الإمكان الموازنة بين وسائل التقدم والتطور والتقنية الحديثة وبين المحافظة على البيئة ونظم الطبيعة والحياة الفطرية السليمة مع زيادة الاحتياجات الناتجة عن الانفجار السكاني على الأرض؟ وهناك سؤال آخر يطرح نفسه وهو: ماذا يمكن عمله في المستقبل القريب لتوفير المتطلبات الأساسية من الماء والغذاء والطاقة والبنية التحتية لسكان الأرض مثل: إنشاء الطرق والمواصلات، واستصلاح الأراضي الزراعية والسكنية، والرعاية الصحية، والصرف الصحي ومعالجة النفايات والتلوث للمحافظة على نظافة البيئة، ومختلف الإجراءات الهندسية التي ترتقي بجودة الحياة على الأرض. فخلال العقدين القادمين سيزيد سكان العالم بمقدار بليوني نسمة تقريباً، وحوالي 95 % من هذه الزيادة في دول العالم الثالث النامية، وهناك دراسات عديدة تفيد أن استمرار التوسع والزيادة في عدد مناطق العمران المدني الواسعة سيؤثر بشكل متفاوت ونسبي على مستقبل الاستقرار والازدهار في كثير من دول العالم، لأنه يقدر في الوقت الحاضر أن ما بين 835 مليون إلى بليونين من البشر يسكنون في بيوت الصفيح التي تشكل مدن العشوائيات، كما تفيد الدراسات أن التوسع العمراني والتمدد المدني يساهمان بنسبة 25 % - حسب تقديرات الأمم المتحدة - في زيادة المشكلات الاقتصادية للسكان الذين يعيشون تحت خط الفقر، وهذا ما أكدته مجلة فوربز الأمريكية الشهيرة في عددها الأخير عن قائمة أغنى أغنياء العالم حيث ذكرت أن أغنياء العالم يزدادون غنى وفقراء العالم يزدادون فقراً. وعندما نضع في الاعتبار المشكلات التي يواجهها سكان الأرض اليوم والمشكلات المتوقع أن تبرز خلال منتصف القرن الراهن نجد أن هناضرورة ملحة إلى عقلية هندسية متطورة تسهم بشكل فعال في بناء عالم أكثر استدامة واستقراراً، وكما قال أحد خبراء الأمم المتحدة (التطوير المستدام سيكون مستحيلاً بدون المساهمة الفعالة من المهنة الهندسية) كما سيتطلب من المهندسين أن يتبنوا أفكاراً حديثة ومتطورة ترتكز على الصداقة مع البيئة والتعاون مع نظم الطبيعة، فعلى مدى 150 سنة الماضية وحتى اليوم ما زال المهندسون يمارسون الهندسة بنموذج السيطرة على البيئة ونظم الطبيعة الذي ساهم بدون قصد منهم في حدوث المشكلات البيئية الراهنة والإضرار بنظم الطبيعة، ومع ذلك استطاعت الهندسة المدنية أن تحقق إنجازات هندسية رائعة خلال القرن التاسع عشر والقرن العشرين، فلعبت دوراً حاسماً في تحسين ظروف البشرية على الأرض من خلال تطوير مصادر وشبكات المياه والصرف الصحي، وشبكات الطرق والمواصلات فمكنت سكان الأرض من النمو الدمغرافي (زيادة عدد السكان نتيجة الهجرة والزيادة الطبيعية)، ولكن معظم إنجازات الهندسة المدنية السابقة التي تم تحقيقها لم تضع في الاعتبار معالجة الأضرار الاجتماعية والاقتصادية والبيئية الناتجة عن سلبيات التقدم والتطور، ولم تكن هناك دراسات هندسية جادة في قياس حجم تلك الأضرار على البيئة ونظم الطبيعة قبل تطبيق إنجازاتها على أرض الواقع، كما أنه لم تبذل جهود كافية لتلافي السلبيات التي أفرزتها إنجازات الهندسة المدنية أو للتقليل من أضرارها. واليوم ونحن في أوائل القرن الواحد والعشرين يجب على المهندسين البدء في عملية تحول جوهرية من العقلية الهندسية المسيطرة إلى العقلية الهندسية المتطورة وهذا يتطلب أولاً: التغيير الجذري في نموذج ممارسة مهنة الهندسة الذي يرتكز على السيطرة على البيئة ونظم الطبيعة، والتحول إلى نموذج ممارسة مهنة الهندسة الذي يبني علاقة الصداقة الحميمة مع البيئة ويتعاون مع نظم الطبيعة لإدراكه أن الإضرار بهما يعني الاضرار بحياة الناس على الأرض. ثانياً: نشر الوعي لإعادة إحياء العالم الفطري والصداقة مع البيئة والتعاون مع نظم الطبيعة وتوفير الخدمات اللازمة للمحافظة عليهم من سلبيات التقدم والتطور. ثالثاً: بناء عقليات جديدة تعزز الصداقة والتكامل بين الإنسان وبين البيئة والتعاون مع نظم الطبيعة. رابعاً: استقطاب العقليات المؤثرة التي تتبنى مبادئ التطوير المستدام مثل: استخدامات مصادر الطاقة النقية والمتجددة كالرياح والمياه والطاقة الشمسية، خامساًتطبيق معايير العمارة الخضراء الصديقة للصحة والبيئة واختيار التكنولوجيا النقية الخالية من العوادم الضارة. والمهندسون تقع على عواتقهم مسؤولية الوساطة بين الإنسان وبين البيئة والعالم الفطري ونظم الطبيعة، ومن أكبر التحديات التي تواجهها المهنة الهندسية اليوم أن يكون للمهندسين أدوار إيجابية وفعالة في عمليات التغيير الحضاري والاقتصادي والتطوير المستدام واختيار التكنولوجيا المناسبة لحياة الإنسان في كل مكان.
الخلاصة:
إن تلبية احتياجات النمو السكاني على أرض الواقع مع حماية البيئة والحياة الفطرية ونظم الطبيعة من سلبيات التقدم والتطور مهمة دقيقة وصعبة، يستحيل تحقيقها بدون المساهمة الفعالة من المهندسين لاستعادة دورهم الريادي في عملية البناء والتطوير المستدام.