عبد الله بن سالم الحميد
أطيافُ الحزن التي تحاصرنا لا يمكن أن تنسينا حضور شخصية الملك عبد الله، العزيز على قلوبنا - رحمه الله- إذ تشهد أعماله وإنجازاته بكل ما حقق، وغرس، وبذل في حياته وحياتنا من بناء وتأسيس وتطوير وتحديث للمعمار التنموي، والاجتماعي، والاقتصادي في مشروعات مختلفة متوزعة عبر منظومات شتى، تنهمر في جداول المصلحة، والمنفعة العامة للوطن والمواطن، والإنسانية.
عشر سنوات حافلة بالعطاء والازدهار، هي استمرار لفعاليات مثمرة في سنوات خدمة ومعمار وبناء ورعاية واهتمام غرستها أيادي الملك عبد الله بن عبد العزيز منذ انطلاقه في نسيج الريادة والمسؤولية في تأسيس كيان الفروسية والحرس الوطني.
وكانت الثمرات ونتاج الغراس شاهدة على الريادة والإبداع وقد غمرتنا تجلياتها المشرقة في عهده المكتظ بفعاليات البناء والتنمية لمشروعات ضخمة، وتوسعات كبرى في مسارب شتى، ابتداءً من (توسعة الحرمين الشريفين) إلى تأسيس وبناء كبرى الجامعات والمشروعات الاجتماعية والاقتصادية، والأساسية التي ستظل شاهدة على روعة العمران والبناء أعواماً متتالية معبرة عن العناية والإخلاص والمصداقية، والحضور الأثير للمنجزات الوطنية الرائعة.
وقد عبرتُ عن أصداء هذا الحضور لخادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز في هذه القصيدة التي نُسجت محتفية بحضور يعد بمثابة العيد الذي يبتهج به المواطن الذي يشهد هذه المنجزات الحضارية.
حضور المليك:
(من آخر كتاب: حضور المليك)
العيد: أنت حضوره والدارُ
ضاء الوجود، وهلَّت الأمطارُ
قلق تملّكني فديتك عندما
خفتْ، وحارتْ نحوك الأخبار
خبرٌ يسابق في رحابك هاطلاً
وبشائرٌ تهفو لها الأعمارُ
ما نافستْكَ على الوفاء شمائلٌ
إلا تألق نبضك/ الإيثار
نهر تدفق بالحنان وهاجس
يسمو به من خافقيك فنار
من راحتيك تبلورت آمالنا
صرح وجامعة تضوع ودارُ
وروائع الفرص التي حولتها
لغة، وبعثة طامح يختارُ
ومناهج تجديدها متدثِّرٌ
برؤى الحكيم، ومن إليه يُشارُ
وتخصص، أنىَّ توجه يرتدي
حلل الفضيلة والعلوم دثارُ
وريادةٌ أنت الخبيرُ بشأنها
فاسلم، فكل المنتدين حوارُ
للمبدعين نسجت أثمن نخبة
مما يتاح، وبالعقول يدار
يا من جعلت الفكر رائد نهضة
ومعبراً قد صاغه الأبرار
وإذا المواهب في رحابك فتيةٌ
لطموحهم تتلفت الأفكار
يا خادم الحرمين: حبك فتنة
يهفو لها الأطفال، والأخيار
والأمهات على حضورك لهفة
يستبشرون بوجه من يُختار
دام التألق في رحابك شعلة
من ضوء شمسك بالوفاء تنارُ
ورؤى الحضارة شاخصات تلتقي
بين الشواهد شعّت الأقمار
حضرت بحضرتك البشائر تجتلي
بالخير يهطل، كلنا استبشار(1)
***
ولكن: بعد رحيل مليكنا العزيز، والدنا العظيم الملك عبد الله بن عبد العزيز تلعثمت الكلمات، وحارت الأفكار في التعبير عن معاناة الحزن والفراق لهول الفجيعة بفراق من ملك الوجدان بحضوره وحنانه الأبوي، وحرصه على أبنائه، شعبه، أمته واهتمامه بهم - غفر الله له ورحمه وأسكنه الفردوس الأعلى من الجنة.
رحيل الملك
زُويت لك الدنيا فلم تر بابا
إلا وأُشرع يأنس الترحاب
جاءتك من كل الدروب جداول
وصحائف تستشرف الأحبابا
من كل صوب في العزاء، توافدوا
محضوا الوفاء، وشيعوا من غابا
لولا التفتَّ إلى الوفود رأيتهم
يستنطقون حضورك الخلابا
هذي رعاياك التي غادرتها
حزنى، تئن ولا تطيق غيابا
ولك المآثر تستفيض، وتنتقي
عبق الوفاء، وشجوها السكابا
ومنائرُ الحرمين تنطق شاهداً
بالمنشآت تحيطها أسرابا
ومياه زمزم حين أضحت أنهراً
في عهدكم، عودتها التسكابا
والولدان، وما غرست لبرهم
من منشآت تسعد الأحقابا
والجامعات تتابعت في عهدكم
متنافسات تغمر الطلابا
ولـ(نورة) صرح الوفاء مشيد
يدعو الفتاة، ويشرع الأبوابا
هذي منابرك التي سوّغتها
أدباً يصوغ محاوراً، وخطابا
ضاءتُ بحضرتك الديارُ، وعندما
ودعتها، هطلت ندىً سكّبا
يا خادم البيتين: نبضُكَ حاضرٌ
قمم الوفاءِ يوزعُ الترحابا
عهدٌ تدثر بالتنافس، والندى
والمغدقاتُ به تزفُ شبابا
تُحيي النفوس بنهضةٍ وثّابة
وتديرُ عصراً يرفضُ الإرهابا
وإذا امتطى للمفسدين توجُّهٌ
كان السلام، ونهجه الغلاّبا
والحكمةُ الفضلى تفلُّ حرابهُ
وتُحكّم الرشد المضيء كتابا
إنسانية ملك
وحين أشرقت بوادر العهد الجديد لخادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز كانت بلسماً يطمئن النفوس الحزينة، ويُغدق عليها زخات من غيث البشر والأمل والتفاؤل يشطحُ بها عن تراكمات الحزن، وآلام الفراق وهواجسه، وانهمرت شلالات العطاء سخيةً كريمةً، تذكّرنا بسجاياه وأعماله الخيرية التي ألفها، واعتاد عليها شعبه منذ حينٍ متمثلةً في مؤازرة المشروعات الخيرية ومباركتها، ودعمها ورعاية بقائها واستمرارها، ومنها:
1- جمعيات تحفيظ القرآن الكريم في مناطق المملكة.
2- جمعيات البر الخيرية.
3- جمعية رعاية الأطفال المعوقين.
4- رعاية الأيتام.
5- لجان مناصرة ودعم فلسطين، والجزائر، والصومال، والبوسنة، والهرسك، وغيرها.
6- اللجان الخيرية لأصدقاء المرضى.
7- لجان الإغاثة.
وهنا أتوقف أمام الجانب الإنساني الخيري لهذه المشروعات الخيرية الرائدة التي ظلت منغرسة في وجدان سلمان بن عبدالعزيز لمعرفته وعمق إحساسه بحاجة مجتمعه وأمته لحضور الجوانب الإنسانية، والتكافل الاجتماعي الذي يضمن الأمن والإيلاف والمحبة والإخاء، والصلة بينهم إلى الأبد.
ولا ينسى دعمه للثقافة والصحافة، وحضوره الأثير في ملتقياتها، ومنابرها، وعنايته بشؤونها من (دارة الملك عبدالعزيز) إلى (مكتبة الملك فهد الوطنية) إلى الجامعات والجمعيات ومحافلها، ووقوفه معها ورعايتها.
رعاية الأيتام
تتوقف الإنسانية طويلاً أمام رعاية الأيتام والعناية بشؤونهم كل موقف ذكرى لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم الذي ولد يتيماً ونشأ يتيماً، ولا زال «اليتم» يتعطر بذكره وشمائله -عليه الصلاة والسلام- لذلك يحظى كل من عُني بهذه السيرة الفضلى وتجلياتها يتدثر بالقدوة السنة لخير البشر.
ذات مساء مفعم بمشاعر الإنسانية والوفاء عرض التلفزيون حفلاً للأيتام برعاية الأمير سلمان بن عبدالعزيز أمير منطقة الرياض -آنذاك-، وفي أجمل فقرات الحفل نشيد مسكون بالبراءة والحنان أنشد فيه نخبة من الأطفال «الأيتام» نشيد (بابا سلمان) فعبرت عدسة الكاميرات على وجه (راعي الحفل) فإذا عيناه تنهمران بالدموع!! احتضنت المشهد، وبكيت، وانهمرت الأبيات التالية في قصيدة اليتيم في عيني سلمان):
اليتيم في عيني سلمان
عيني ترقرقُ بالدموع، وتغرقُ
ويداك تمسحها، وعطفك يغدقُ
وسحابة الحرمان ولّت حين ما
هطلت سحائبك -المنى- تستغرقُ
ما كان أصدقها عواطفك التي..
سبقت مدامعنا التي تغرورق
أجهشت بالدمع الغزير فأمطرت
مُزن الوفاء وشائجاً تتدفقُ
أشرعت للإحسان ألف وسيلة
وغرست أشجاراً سنابل تسمقُ
حتى إذا حان القطاف رأيتها
جنات خيرٍ بالندى تتفتقُ
نسجت مآثرك النبية قدوة
للباذلين، ونخوة تتعشق
بادرتها برؤى السخاء.. فعبرت
صُورُ الجمال قلائداً تستنطق
«سلمان» يا أبتي: حضورك بهجة
جعلت كوابيس الهموم تمزّق
هربت طيوف الحزن والفقد التي
كانت تؤرّقنا.. فأنت الأصدق
سلمان يا أبتي: شكوت فكنت لي
نعم الأبُ الحاني. ونعم المشفق
أنى التفت.. فتلك أم أرمل
ومشاعرٌ ثكلى.. وحزنٌ أعمق
سلمان يا أبتي أرقت فكنت لي
عوناً لموجدتي، ونعم الفيلق
سلمان يا أبتي حزنت فكنت في
كل المواقف حاضراً..تتألقُ
كم كان يحلم - بالأماني- فاقدٌ
للحب والإيلاف -يهوى.. يعشقُ
سلمان يا أغلى حروف طرّزت
صور الوفاء، وأجبرتها تنطق
صُغنا نشيداً.. أنت نبض حروفه
عينٌ معبرةٌ.. وقلبٌ يخفق
حلّقت في وجدان كلِّ ميتّم
فرأيتهم - يا والدي- بك عُلقوا
يا كافل الأيتام: نعم خليقة
ما يرتضيه المؤثرون ويصدق
أعلنت للإيثار أجمل صفحة
وجلوتها.. فازدان فيها المنطق
أسرجت للبذل الجياد.. وأسرجت
خيلٌ مطهَّمة أجوراً تسبقُ
هذي ميادين التنافس أشرعت
خيل البراءة في ذراها الأبلق
من كان يمنحنا الوفاء سوى الذي
جعل الوفاء شريعة لا تخلقُ
وتوحّدت أصواتنا فتلاحمت
لا تكذب الأصداء حين نصدق
يا والدي سلمان كحّلْ بالمنى
عين اليتيم.. فعينه تتحرَّقُ
وازرعْ له درب الحياة شتائلاً
تزهو به الآفاق.. وهو يحلّقُ
في موئل الإحسان كنت له أباً
يرعاه في سبل الحياة ويسمقُ
أنّى التفت على الفضائل والندى
حضرت بحضرتك الجموع وحلّقوا
هذا تحاوره، وذلك مطرق
وعيون برّك بالوفاء تحدِّقُ
وبعد:
فستظلُّ ذاكرتنا تتحدث، وقلوبنا تشهد، وأبناؤنا يتطلعون إلى أيام وأعوامٍ مشرقة بالأمل والتفاؤل والارتقاء في عهد مليكنا الإنسان «سلمان بن عبدالعزيز» الذي عوّدنا على الحضور الأبوي الرفيع، بنبله، وتجاوبه وأريحيته، وفَّقه الله ورعاه وأعانه على قيادة المسيرة بالحزم والعدل والارتقاء..
** ** **
(1) شعر عبدالله بن سالم الحميد، http://www.alhumied.com