تحتفي الذاكرة بحضور أطياف شخصيات أثيرة لها في الوجدان مكانة ومكان لا يمكن أن ينساه الإنسان وهو يودّع هذه النماذج الرائعة التي كانت تهتف بأناشيد الحب والوفاء، وتتغنّى بالشوق والحنين إلى الذكريات الزّاخرة بالحضور الروحيّ المخصّب بالخير والجمال.
الإنسان المتواضع سعد بن عبد العزيز الرويشد أنموذج من أولئك النخبة المفعمة بالسخاء والوفاء والحنان والإيثار عندما يشرع بابه مع إشراقة شمس الصّباح ليستقبل محبّيه بكلّ ما عرفتْه طيوف النّبل من حفاوة، وشفافية وبراءة وشوق بوجهٍ سمْح يتدفّق حيويّةً ورقّةً وشاعريّةً تكتنز بعبق الماضي وعراقته، وتجليات الحاضر المتألّق أمامك، فتطمئنُّ نفسك بزخّات مطر العبارات الأنيقة، والاستقبال الرحيب والذكريات العذْبة كالسلسبيل.
وتجلس على أريكة الشعر والثقافة والتراث لتصغي من أبي عبد الله - الشيخ سعد الرويشد إلى صوت الشاعر محمد بن عثيمين عبْر أصداء تحمل أطياف معاناة التأسيس والتوحيد وبشائرها وفتوحاتها خلل القوافل المنطلقة عبر الآفاق رفقه المؤسس الملك عبد العزيز ورجاله المخلصين تذكرك إشراقاتها البطولية بقول أبي تمام:
ورُبَّ ديارٍ لم تخفْني.. منيعةٍ
طلعْت عليها بالرّدى: أنا والفجْرُ
أطيافٌ أثيرة لابدّ أن توقظ خيالك من غفوة البكور في حضرة الصوت الشجيّ للمعبّر الأستاذ سعد الرويشد وهو ينقلك بين الذكرى والشعر والأحداث، والأحلام وحكايات بقايا الناس الطيبين.
إنّ قوافل الوداع تترى تأخذ من حياتنا أحبّةً عشنا معهم على ثرى هذه الدنيا حيناً من الدهر، وثّقت وشائج القربى بيننا عرى الفكر والثقافة وعمقّتها أواصر الأخلاق والإبداع ممتزجين فارتقت بتوجهاتها إلى ذرى العلاقات الحميمة نحتفلُ ذات ألقٍ وذكرى بحضورها ومصداقيتها وتعبيرها يغزل نسيجها نخبة ممن خفقت ألوية الوفاء والإيثار في وجدانهم فبادروا إلى التعبير الواعي عن حضور رفقة البوح والإبداع في الذاكرة لحظة الوداع الحزين وكانوا من السابقين إلى الاحتفاء الوفي الذي قرأته في نماذج من المقالات، وقد وفّقت الشاعرة د. فوزية أبو خالد إلى غرس شتلات الوفاء الوداعي الأثير في مقالٍ واحد شامل لنخبة من الأصوات الإبداعية التي افتقدناها في زمن متقارب وهم المعبّرون الرائعون :
1- الشاعر سليمان الفليّح.
2- الشاعر حزام بن عبد الرحمن العتيبي.
3- أ.د. محمد بن أحمد الرشيد.
4- أ. د. أسامة عبد الرحمن.
ولحق بهم فيما بعد الشاعر إبراهيم الدامغ الذي تناولته مع الشاعر أسامة عبد الرحمن في كتابي [ شعراء من الجزيرة العربية ].
وكلٌّ من هؤلاء المعبّرين كان له حضوره ودوره في تنمية الوعي الاجتماعي والهمّ الثقافي، تتفاوت مستويات الأداء والحضور، وتتفق وتلتقي عند المسئولية الوطنية الاجتماعية الراقية التي يطمح إليها كل إنسان محبٍّ لوطنه، مخلص لمجتمعه وأمته.
وإثر غياب أي صوتٍ من الأصوات المعبّرة عن الهواجس الإنسانية، الحاضرة في وعي المجتمع بتوتّرها الإبداعي الفعّال تتراءى أطياف كلّ من سبق أو شابه، أو عاصر المعاناة وعاش في ألقها وهجيرها وتجلّياتها، وتناغم معها، وعبّر عنها بما وهبه الله من أساليب التعبير.
وعلى أصداء الشعر التقليدي القديم آثر فقيد المنتدى الثقافي الشيخ سعد الرويشد أن يترنّم بشعر أعزّ شاعر معاصر لديه الشيخ محمد بن عثيمين - الأديب الفقيه - فجمع أشتاتاً من قصائده التقليديّة في الثناء والوفاء والرثاء في كتاب أسماه [العقْد الثمين من شعر محمد بن عثيمين] ضمّ عدداً كبيراً من قصائده التاريخية الموثقة لأحداثٍ مهمّةٍ في حياة الملك المؤسس عبد العزيز - غفرالله له - وفي تاريخ المملكة العربية السعودية، كان عشّاق الشعر والتاريخ والتراث يبتهجون بأسلوب سعد الرويشد، ويعجبون من ذاكرته الواعية في حفظ قصائد ابن عثيمين، وشواهد الشعر العربي ويستمتعون بإنشاده الحماسي المتأنّق المتناغم مع انسجامه وعشقه للصياغة العثيمينية.
وقد لحظْتُ أنّه يتخيّلُ حضور الشاعر محمد العثيمين، وراوية شعره أحد رفقة الملك عبد العزيز الشيخ عبد الله العجيري أو أحدهما حين يلقي قصائد التّهاني بفتح مكّة،أو الأحساء، أو المدينة المنوّرة فيثير الشجن الروحانيّ في النفوس مستعيدةً عبر صوت ابن عثيمين أصداء تلك الأصوات التراثية لأبي تمّام والمتنبي، والبحتري، والرّندي وغيرهم كأنّما يستعيد حديث الماضي المجيد:
أعدْ حديث المنحنى أعدِ
تهلّلَ وجْهُ الدين، وابتسم النّصْرُ
عُجْ بي على الرَّبع حيث الرّندُ والبانُ
فقد ذكرْتَ فشنّفْ مسمعي وزدِ
فمن كان ذا نْذرٍ، فقد وجبَ النّذْرُ
وإن نأى عنه أحبابٌ وجيرانُ
وكان الشيخ سعد الرويشد يعشق الترنُّم بقصيدة [سفر الزمان] التي نسجها الشاعر محمد بن عبد الله بن عثيمين عن فتح المدينة المنوّرة عام 1344هـ:
سفر الزمانُ بغرّة المستبشرِ
وتأرّجتْ أرجاؤه بشذائه
وكُسي شباباً بعد ذاك المكبرِ
حتّى لخلْنا التُّرب شيب بعنبرِ
وكدْتُ أبدي له رأيي في القصيدة أنّها تقليديّة تستحوذ عليها التقريريّة والارتجالية غير أنّه لم يتركْ لي فرصةً حيث واصل تحليقه في أجواء القصيدة وهواجسها إلى أن توقّف عند هذا البيت وما بعده:
ليت الذي سكن الثرى ممن مضى
من أهل بدرٍ والبقيع المنوْرِ
فأصغيتُ إليه متأثراً متأكّداً أنّه يعيش في خيمة التجلّيات المشرقة لفضاءات أجواء القصيدة متذوّقاً ومدركاً أبعاد التعبير الروحاني العميق.
هذه إطلالةٌ من نافذة شاعريّة على صورة تعبيرية في [منتدى سعد الرويشد] الذي كان يرتاده نخبٌ من الفقهاء والأدباء والأمراء والشعراء، والحكماء فيصغون كما أصغيت ويخرجون وقد تدثّروا بروائع العطر والشعر والحفاوة والوفاء والسماحة، والوجه الطليق.
ولئن فاتني أن أعبّر عن مشاعر الوفاء والثناء على كل النماذج الفكرية التي غادرت حياتنا وسبقتْنا إلى الدار الأخرى من الرفقة الذين لا يشقى بهم جليسهم فلابدّ أن تُشرع أبواب الوفاء والتقدير والتكريم لهم نحو ما قدّموا وعبّروا وأضاؤوا وبذلوا واجتهدوا لخدمة دينهم ومجتمعهم وأمتهم في آفاق شتّى [وهل جزاء الإحسان إلاّ الإحسان].