محمد آل الشيخ
الخطاب الذي ألقاه خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز يوم الثلاثاء الماضي، حدد بوضوح، وبما لا يقبل مجالاً لأي جدل، أو شكوك، أنه - حفظه الله - رجل المرحلة فعلاً، سواء فيما يتعلق بالشأن الداخلي، أو القضايا المتعلقة بالشؤون الخارجية. ومن يعرفه عن كثب ويعرف أولوياته، يجد أن كل ما تضمنه الخطاب يعكس شخصيته وطريقة تفكيره وسعة رؤيته لأمور الدولة وشؤون الحكم. ولعل أهم ما يتميز به أنه حاسم في رؤاه وقراراته، صاحب توجه لا يحيد عنه، ولا يتراجع، توصل إليه من كونه ليس أميراً للرياض العاصمة فحسب وإنما لكونه أحد ركائز صناعة السياسة، والقرارات المحورية، وإدارة الأزمات التي مرت على هذه البلاد منذ ما يقارب الخمسين سنة، فعرف من خلالها ومن تجاربه فيها أن سياسة الدول لا بد أن ترتكز على رؤية وتصور وأفق واسع، يترجم ذلك كله نهجاً يجعل منه واقعاً ملموساً وليس مجرد شعارات ومقولات تم تعليبها بإتقان، لكنها لا تعرف عندما تلتفت إلى الواقع تطبيقاً، كما هو ديدن كثير من الأحزاب والتكتلات السياسية في الدول الأخرى. لذلك يمكن القول: إن سر بقاء المملكة، وشموخها، وعزتها، عصية على ما مر بها، وحولها من أحداث وأعاصير وعواصف، يترجمه نظرياً ما جاء في خطابه حفظه الله، الذي كان شاملاً وحصيفاً ويؤكد أن بقاء هذه البلاد منذ المؤسس الملك عبدالعزيز مروراً بالملك سعود فالملك فيصل فالملك خالد فالملك فهد فالملك عبدالله، وأخيرا الملك سلمان أمد الله في عمره، أنهم يضعون الوطن والمواطن نصب أعينهم، ويتماهون دائماً وأبداً مع مصلحته، ويتجهون معها أينما توجهت؛ وتبقى التنمية الشاملة وبالذات التنمية الاقتصادية التي هي سر رخاء ورفاهية الدول، ويتوقف عليها بقاؤها، ناهيك عن تطورها وازدهارها، هي هاجسهم وإليها تتجه قراراتهم، في الداخل والخارج.
خطاب الملك سلمان اتكأ على محاور عدة، يستطيع أن يقرأها المتلقي في الخارج والداخل بسهولة. أهمها أن (الغد الواعد) والمستقبل المشرق يستحوذ على تفكيره ومراميه وبالتالي سياساته، لذلك أشار إليه في بداية خطابه؛ بأن هذه الدولة قامت وستبقى تحكم شرع الله، وما ارتضاه لعباده، وهذه قضية محسومة، لا مساومة عليها منذ التأسيس وحتى الآن. ثم أشار إلى تميز بلادنا بوجود الحرمين الشريفين على أرضها، وشرفنا جميعاً بخدمتهما، وأن هذه أولوية مطلقة، وثابت من ثوابتنا يتقدم على غيرها من الأولويات؛ بعد ذلك أشار إلى الثوابت الثلاث التي يتوارثها آل سعود كابراً عن كابر: (وحدة البلاد، الأمن، الاستقرار)؛ ثم انتقل إلى أن تحقيق هذه الثوابت الثلاث، هي عملية تراكمية، يضيف فيها الخلف إلى ما أنجزه السلف، وهكذا دواليك؛ ولعل هذه النقطة بالذات في تقديري غاية في الأهمية؛ فما أهلك كل الدول التي سقطت، ولفتها القلاقل والمحن، إلا عواصف التغيير لمجرد التغيير، فتجد الخلف يعمد إلى ما بناه السلف، وما أنجزه من سبقوه، فينسفه، ويأخذ بلده إلى توجه آخر، ولا يعلم أنه بهذه التعرجات وهذه التباينات يفقد بلاده أول ما يفقدها الاستقرار ناهيك عن الاستمرار والثبات، وفي المحصلة فقدان الأمن والاستقرار، وهو سبب سر بقاء دولتنا ورسوخها وشموخها وازدهارها.
كما تضمن هذا الخطاب أن حكام المناطق هم همزة الوصل بين المواطنين والقيادة، وعليهم أن يعملوا على إيصال أية فكرة لأي مواطن، من شأنها الإسهام في التطوير والبناء.
كما أشار إلى أن من أسباب وحدة المجتمع الابتعاد (عن تصنيف الأفراد)، لأن ذلك سيؤدي بالمجتمع إلى الفرقة والتشتت. ثم قال بالنص: (وفي هذا الصدد أخاطب الوزراء والمسؤولين في مواقعهم كافة أننا جميعاً في خدمة المواطن الذي هو محور اهتمامنا، وقد وجهنا بمراجعة أنظمة الأجهزة الرقابية بما يكفل تعزيز اختصاصاتها والارتقاء بأدائها لمهامها ومسؤولياتها، ويسهم في القضاء على الفساد ويحفظ المال العام ويضمن محاسبة المقصرين).. كما أشار إلى ما يمر به سوق النفط من تقلبات، وأنه - أيده الله - سينصب جزءاً من اهتمامه على مزيد من الاكتشافات البترولية والغازية والثروات الطبيعية بما يكفل ثبات الدخل، واستمرار النماء. وتحدث عن التعليم بشقيه العام والجامعي، وضرورة أن تكون مخرجاته متوافقة مع متطلبات التنمية. كما خاطب - حفظه الله - الأجهزة العسكرية كافة، وأنهم بمثابة درع الوطن، وحماته، وأنه سيعمل على تعزيز قدراتهم وإمكاناتهم
ثم أشار إلى أن المملكة جزء من العالم، وأنها ملزمة بما يتوافق مع الدين الحنيف، الذي هو دين المحبة والسلام لا دين الإرهاب والعنف الذي أقض مضاجع العالم من أقصاه ألى أقصاه، كما أكد على أنها ملتزمة بجميع الاتفاقيات والمواثيق مع دول العالم، وأشار إلى مساندة المملكة للفلسطينيين، وحقهم في أن يكون لهم وطن، وعاصمته القدس الشريف. إضافة إلى أن المملكة تنحاز إلى حل المشكلات العالقة بين دول العالم بالحوار والتفاهمات فيما بين المختلفين والبعد عن العنف والحروب وبواعثها. الكلمة كانت في لغتها وشموليتها وتفاصيلها وإيماءاتها تقول الكثير وتحدد التوجهات وتلغي كثيراً كم التكهنات التي أثارها أعداء الوطن بمختلف توجهاتهم وايديولوجياتهم.
إلى اللقاء