محمد آل الشيخ
حطمت (داعش) في حركة استفزازية قميئة وبربرية حمقاء مجموعة قطع أثرية نادرة لا تقدر بثمن، تحكي تاريخ العراق القديم، وحضاراته الإنسانية الثرية، كانت معروضة في (متحف الموصل).
الدواعش قبل أن يستفزوا العالم بتحطيم هذا التراث الإنساني النادر كانوا يسرقون هذه الآثار ويهربونها خارج العراق، ويبيعونها من خلال سماسرة القطع الأثرية، ويقبضون الثمن. ثم قرروا أن يُعملوا معاولهم فيها، وتعمدوا أن يظهر ذلك علنا في حركة إعلامية مصورة، ليثبتوا تشددهم السلفي. وكالعادة وظفوا الحلال والحرام في القضية ليستقطبوا إلى إرهابهم مقاتلين جدد، رغم أنهم باعوا قدرا من قطع أثرية مماثلة، بعد أن اعتبروها غنيمة، وبالتالي فمردود بيعها والاستفادة من ثمنها حلال وجائز، وحينما ضيقت عليهم الأمم المتحدة السبل، ولاحقوا العصابات المجرمة التي تشتريها منهم بأبخس الأثمان، عادو واعتبرو أن (التماثيل) حرام، ولا يجوز إقتناؤها ولابد من تحطيمها !.. والسؤال الذي يفضحهم : القطع الآثرية التي بعتموها، واستلمتم ثمنها، لماذا أبحتم بيعها في الماضي ولم تهشموها؟.. طبعا السبب أنهم مثل اللصوص، ليسوا بأصحاب مبادئ ولا قيم، وإنما يوظفون بعضا من مظاهر التشدد السلفي لذر الرماد في العيون، وخداع البسطاء والسذج من دهماء السلف.
هذا التناقض، والارتباك في التوجه والتعامل مع هذه القضية تارة بأنها حلال ويجوز بالتالي بيعها والاستفادة من ثمنها وبين أنها حرام، ولا يجوز اقتناؤها و لا بيعها بل تحطيمها، يشير إلى أن هؤلاء القوم انتهازيون، يحللون ويحرمون حسب مقتضيات الاستفادة والمال، وليس هم كما يتوقع البعض بأصحاب قضية ومبدأ من حيث المنطلق، حتى وإن اختلفنا معهم في هذا الحكم أو ذاك. وغني عن القول إن بعض متشددي السلف يعتبرون أن اقتناء التماثيل سواء الأثرية أو الحديثة لا يجوز، ويدعون إلى تحطيمها، خشية من أن تكون وسيلة من وسائل الشرك ويؤدي اقتناؤها إلى عبادتها من دون الله كما كان يفعل مشركو العرب في الجاهلية قبل الإسلام. وهناك من فقهاء السلف من لا يراها كذلك، بعد أن تبين الرشد من الغي، ولا يرون حرمة لا في صناعتها ولا في اقتنائها، واشترطوا في تحريم اقتناء التماثيل أن يكون اقتناؤها بغرض تعظيمها وعبادتها، فإذا أمنت هذه الفتنة، فلا بأس من صناعتها واقتنائها. واستدلوا على ذلك بأن الصحابة - رضوان الله عليهم - لم يحطموا التماثيل التي وجدوها في بلاد فــارس، حينما فتحوهـــا، لأن اقتنائها عنــد الفرس ليــس ليعبدوها، وإنما كانـوا يزينون مجالسـهم بها من باب الترف والتباهي، في حين أنهم حطموها حين فتحوا الهند لأن أهل الهند حينها كانوا يقدسونها ويعبدونها كما كانت تفعل العرب قبل الإسلام.
الإمام المالكي الشهير (القرافي) - رحمه الله - هو شيخ علماء الأصول الأوائل على الإطلاق، فلا يمكن لمتخصص في أي مذهب من المذاهب الأربعة، أن يبحث في أصول الفقه، إلا وعاد إلى كتبه وتعقيداته الفقهية، ونقل عنه، واستدل بأقواله. ولعل كثيرين لا يعلمون أن هذا الإمام الأصولي الجليل كان (نحاتاً) أو إن أردت (مَثّالا)، أي أنه كان يصنع التماثيل، ويُبدع فيها ويتفنن في إتقانها، ولا يرى في ذلك بأساً ؛ اقرأ ما كان يقوله عن نفسه، وورد في أحد كتبه. يقول - رحمه الله - في كتابه : (شرح المحصول) ما نصه : (وكذلك بلغني أن الملك الكامل وُضع له شمعدان كلما مضى من الليل ساعة انفتح باب منه وخرج منه شخص يقف في خدمة السلطان فإذا انقضت عشر ساعات طلع شخص على أعلى الشمعدان وقال: صبح الله السلطان بالسعادة، فيعلم أن الفجر قد طلع، وعملت أنا هذا الشمعدان، وزدت فيه، أن الشمعة يتغير لونها في كل ساعة، وفيه أسد تتغير عيناه من السواد الشديد إلى البياض الشديد، ثم إلى الحمرة الشديدة، في كل ساعة، لهما لون فيُعرف التنبيه في كل ساعة، وتسقط حصاتان من طائرين، ويدخل شخص، ويخرج شخص غيره، ويغلق باب ويفتح باب غيره، وإذا طلع الفجر طلع شخص على أعلى الشمعدان، وأصبعه في أذنه يشير إلى الأذان،؛ غير أني عجزت عن صنعة الكلام. وصنعت صورة حيوان يمشي ويلتفت يمينا وشمالا ويُصفر ولا يتكلم). انتهى.
وعلى أية حال فالقضية محض خلافية، غير أن الدواعش ومن جاراهم في آرائهم، ونهج منهجهم - نسأل الله العافية - لا يهمهم من التشدد، وإظهار الإسلام بهذا المظهر المنغلق، المعادي للفنون والإبداع، إلا استقطاب الشباب المنغلق مشتت الذهن، ممن يبحث في التشدد، وعداء العالم وثقافاته، عن هوية، يكرس بها وضعه ومقامه في عصر لفظه، ولم يجد له فيه موضعا إلا تقمص السلفية ومظاهرها شكلا لا مضموناً.
إلى اللقاء.